بيتر أونيل... شاعر الهواء الميتافيزيائي
بيتر أونيل... شاعر الهواء الميتافيزيائي
نسرين بلوط
Saturday, 08-Jul-2023 06:44

إنّ التجاذبات المُبطّنة للحركة الميتافيزيائيّة التي تكتنف عالم الخيال وتُحرّك أصوله ومنابته التي لا تستقرّ على قاعدةٍ راسخة بل على ثوابت افتراضيّة ومنطقيّة تتأرجح بين الحركة والجماد، هي التي تتلاعَب بشراع القارب الذي يقلّ الشاعر الانطوائي، وهو من يصرفُ الدّهر في توتّرٍ وانزلاقٍ نحو المشاعر اللامُستقرّة التي تتقاذفه وتنقله من حالة الصراع إلى حالة الضياع أو العكس.

 

وفي قصائد الشاعر الإيرلندي بيتر أونيل، الذي تأثّر ببودلير ونقلَ أعمالاً له من اللغة الفرنسيّة إلى اللغة الانكليزيّة، نَجدُ هذا الفراغ الهائل إثر معركةٍ ضارية بين اندفاعه واحتباسه لمشاعره الروحيّة، حيث يشيع زَوبعةً من الاثارة وهو يسردُ شعراً بلغةٍ مجازيّة عن تلك التقلّبات النفسيّة الحادّة التي يتعرّض لها العاشق ويرسم من آثارها هوّة تتعمّق مع الزمن حتّى تبتلعَ الزهوَ والبهاء والكمال.

 

هذه «القصّة» الشعريّة التي يرويها أونيل، تبدأ في البحر بلا نهاية، فهي تُشبهه بتفاصيلها وأسرارها واضمحلالها إثر الخيبات، وتُباهيها مع هبّات الامل وزخّات الحلم. يقول أونيل:

 

«في البداية/ كانت هناك المنطقة المهجورة المتواضعة/ في قلب الزُرْقة الضاربة إلى الخضرة/ السماءُ الصافية/ غير القابلة للتعريف/ التي كنّا نجتازها/ بحركةٍ رشيقة في مركبنا الشراعي/ وكنّا في وقتِ لَهوِنا/ نحاول أن نمسكَ بالرّيح/ داخل الطَيّات الضخمة/ لِكتّان شراعنا الذي كنّا نوجّهه/ عبر القرون/ كانت المتاهات قدرنا/ ونحنُ ننتقل برشاقة/ مِن كوثل السفينة إلى هيكلها/ وخطّ الساحل/ الذي انبثقَ أمامنا/ جدراناً كبيرة من البازلت والغرانيت/ كانت أفكارنا مُنصَبّة على أمرَين/ البحر والريح/ وكنّا عالقين في نوعٍ من الرّقصة اللطيفة/ بين هذين العنصرين».

 

يتلاعبُ أونيل بالهواء كعنصرٍ أساسيّ يحرّك سائر الكائنات والجماد، يعوّل عليه في الانتقال إلى الجرف الأخير للنهاية والحرف الآسِر لبداية المبدعات، ليعتنق فكر الفيلسوف اليوناني أنكسيمانس الذي رأى أنّ الهواء يصبح عن طريق التكثيف مرئيّاً، حيث رآه أونيل في الرّيح والبحر وانكسار الدّهر والمسافة الفاصلة بين القرون والرقصة الحائرة والدّائرة بين المياه والريح.

 

كان أونيل شاعراً فاتحاً يُشيّد عنابر من الصلات الوثيقة بين العشب والشجر والهواء والمياه والجسد، في قصيدةٍ له سمّاها «مالوس»، قال: «ينبغي نَزْع الجذور القديمة لشجرة الصفصاف/ لِفَتح طريقٍ للشجرة الجديدة/ سَمَّوها مالوس/ وهو اسم قديم/ جاءَ مِن لغة عريقة/ تلفّظتَ به/ فخرجت الكلمةُ إلى الهواء/ قبل أن تُصبح مرئية لك/ وردّد السقوطُ صدى المقطعين/ بَدا هواء بحر البلطيق/ محفوراً على جلدك/ وأنت تصارع محاولاً أن تستعيد في ذهنك/ قاعدة لغوية/ شيئاً ما عمَّ كان ولم يعد موجوداً/ وها أنتَ تزرع الشجرة/ ترشّ السماد على جذورها/ تسكب بعض الماء فوقها/ وتبدأ انتظار ولادة/ أسطورة خضراء».

 

إذاً، الموجود يبحث عن اللاموجود في قصائد أونيل، يبتكرُ الأنفاق ليخرجَ منها ثمّ ينسلّ ثانيةً إليها وتتضوّع من حروفه رائحة التراب التي تعود إلى جذور الأرض ويلفحها الهواء ويسقيها بالمياه. هو السحرُ يتجلّى بطريقةٍ علميّة يتجاوزها الخيال ويرجع لها طوعاً، فهو راغبٌ دوماً بالسفر والتنقّل عبر البحار والتنصّت إلى أسراره عبر أثير الشغف، ويطيبُ له أن يبشّرَ بعالمٍ جديد تحدّده قواعد وأصول ولكنّه ينتزع من عنقه سلاسله وينطلق باحثاً عن انحناءة من النور تشملُ مسالكه وتقوده إلى الشعر ثانيةً.

 

بيتر أونيل، لم يستطع أن يكتبَ شعراً مُبهراً يخلب مكامن الضعف والحنين في الأعماق، ولكنّه ابتكرَ شعراً واقعيّاً سرديّاً فيزيائيّاً، يتبع قواعد صارمة ولكنّها تكادُ تَرتَأ خياله المتنقّل فيعود إلى الحريّة الشاملة التي تتمثّل له في الهواء الذي يرتحل بلا قيدٍ أو شرط ويسري في المفاصل والكون ويرتجّ بثقله عبر العواصف والرياح، ثمّ يعتريه نوعٌ من الرّيبة فيلجأ لمحاكاة الشعر وسرده ليحرزَ نوعاً من الانتقال، وهو في كلّ هذه الزحزحة والمَعمَعة يعود إلى نفسه تائهاً وحائراً لا يستطيع أن يحصر متاعبه أو يحصيها، فيجهش ببعض القصائد التي تنمّ عن عمقٍ داخليّ وفراغٍ خارجيّ يعيش فيه.

 

وفي هذا التشعيث السرمدي يحيا ويبصر ويتنفّس، فهو في هذا الحَرَج لا يتحوّل أو يتبدّل بل يهزّ أبواق الشحوب، بحِسّ لاهب عنيف، وشعره مُفعمٌ بالحيرة، يبتعد عن الغوغاء المرعبة التي يعيشها أهل المدن، ويندسّ في عالم الماورائيّات ويستعذبه، يستحمّ بأشعّةٍ نضرةٍ للشمس ويؤمن بالوجد والهيام ثمّ يعود إلى نظريّته الفلسفيّة وإيمانه العميق بالهواء وما يعبّه من نبيذ النهار وسحر الليل واكتمال القمر. وكأنّ للشعر مئزرة يرتديها ويرميها تحسّباً للأجواء أو ليدرأ بها الأنواء العابرة. وكأنّه يبلغ السّيل الجبليّ للنسائم التي ترتدي قفطان الواقع، وتساوم على نهاية المطاف، ويجنّد اشتعاله النفسيّ ليغذّي شرارات التوق ليطبق أجفانه على مشهد المثاليّة والصدارة.

 

وبين ألمٍ وندم، وحصادٍ ورماد، يجلسُ أونيل على الرّضْف المشتعل للاختلاج المتجرّد الذي يسحقُ كلّ معاناته تحت مسمّى واحدٍ يشغله، وهو القصيدة التي تحتاجه وتجتاحه كلّما رغب في السفر عبر مَهَيات الوجود وطيّاته التي تختلسُ التأمّل أو المصيدة الانتقائيّة والانتقاليّة للشاعر الذي نهبته نوازع الحيرة والشك.  

theme::common.loader_icon