في الوقت الذي تتوالى فيه التبدّلات الهائلة في الشرق الأوسط، إن بسبب الحروب المندلعة عند أطرافه او بسبب التفاهمات الجديدة الخاضعة للانهيارات الاقتصادية والمعيشية، يصرّ أطراف الطبقة السياسية اللبنانية على ترك بلدهم على قارعة الطريق، والاندفاع وراء حساباتهم الخاصة على حساب مستقبل اللبنانيين.
ففي الوقت الذي باشرت فيه اوكرانيا بتركيز خطواتها الاولى في إطار الهجوم العسكري المضاد، عمدت روسيا إلى ضخ المزيد من كميات النفط في السوق السوداء وبأسعار رخيصة، لتأمين مدخول حربي ملائم. وهذا ما رفع الحساسية بين روسيا والسعودية، التي تريد المحافظة على اسعار نفط مرتفعة تسمح لها بتنفيذ مشاريعها الضخمة، وبمواكبة خطواتها نحو الزعامة العربية المطلقة. وفي الجنوب الغربي، حرب طويلة في السودان ودخول الاستثمارات الدولية فيها عبر مشاريع اقتصادية ستؤدي لاحقاً إلى فتح بطن إفريقيا وإعادة إشعال تناقضاتها الكثيرة المكبوتة.
وفي قلب الشرق الاوسط، حيث باشرت السعودية استراتيجية جديدة تقوم على صفر مشاكل، وتستند على الحاجة الملحّة للمحور الإيراني لاستثمارات خليجية، تُجرى رسم خرائط سياسية جديدة تحاكي المراحل المقبلة، من خلال البوابة الاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، وفيما ظهرت أولى الاحتكاكات الإيرانية مع حركة طالبان المتطرّفة، ما يطرح العديد من علامات الاستفهام مستقبلاً، أعلن العراق عن مشروع «طريق التنمية» الذي يربط الخليج بتركيا عبر العراق، من خلال خط بري وآخر عبر القطارات. وهو ما يعني بالنسبة لإيران جروح قد يُعاد فتحها شرقاً مع افغانستان، وخطوط تواصل بري بعنوان اقتصادي غرباً. وقد تشكّل هذه الخطوط حاجزاً اقتصادياً مستقبلياً لأي طموح للعودة إلى حلم ملامسة البحر الابيض المتوسط.
وايضاً، لا يجب إغفال التحرّك الخارجي الأول للرئيس السوري بعد عودة سوريا إلى القمة العربية والتي ستكون وجهتها الإمارات. صحيح انّ الاسد يزور الإمارات للمرة الثانية خلال اشهر معدودة، لكن الجديد اللافت، انّ وجوده في قمة الامم المتحدة حول المناخ سيترافق مع مشاركة رئيس الحكومة الاسرائيلية في المؤتمر. وهذا لا يعني بالتأكيد حصول تطورات عملية حول الملف السوري - الاسرائيلي، لكنه في الوقت نفسه يؤشر إلى شيء ما تلحّ واشنطن على تحقيقه مستقبلاً.
وبالعودة إلى ايران، فإنّه لا بدّ من رصد زيارة سلطان عمان هيثم بن طارق الى طهران، خصوصاً انّه من المعروف بأنّ بن طارق قليل الأسفار. أضف الى ذلك، انّ زيارته الايرانية تأتي بعد زيارته إلى القاهرة منذ اسبوعين، وبعد نجاح مساعي سلطنة عمان في تأمين تبادل أسرى بين ايران وكل من فرنسا وبلجيكا، وخصوصاً بعد مواقف ايرانية واميركية عن تقدّم في ملف المفاوضات النووية، والمعروف عمق الثقة الإيرانية الكبيرة بقناة التفاوض العمانية.
واستطراداً، فإنّ الشرق الاوسط يبدو كلوحة تجمع ما بين البارود والإنماء، من خلال شبكة ربط جديدة، والاختيار ما بين الثورة والثروة، خصوصاً انّ أحد أبرز قواعد العلم السياسي تقول، بأنّ الثورة والثروة لا يجتمعان ابداً.
ووفق ما تقدّم، فإنّ التركيز الحاصل هو باتجاه ايران، وعلى أساس انّ الظرف بات ملائماً ومساعداً للشروع في مسار إقليمي جديد. فمن جهة هنالك بوابة الاستنزاف شرقاً مع حركة طالبان بدأت بوادرها، ومن جهة اخرى هنالك بوابة اقتصادية شرقاً في العراق، مع شبكة تواصل جديدة وسريعة بين العملاقين السنّيين الاقليميين السعودية وتركيا، وهو ما يعني منح شراكة اقتصادية مع ايران في العراق، ولكن مع حائط صدّ غرباً. وهو ما سيلقى موافقة روسية ضمنية، ذلك انّ موسكو الطامحة لترسيخ نفوذها في سوريا، باتت تُعتمد كعامل استقرار في سوريا لا العكس، وهي نظرة تعاكس الحرب الدائرة في اوكرانيا.
وكذلك هنالك الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، والذي يؤسس لقواعد جديدة للمسار الجاري رسمه. ولذلك، يجري التركيز على إنهاء الملف النووي قريباً، خصوصاً من الجانب الاميركي، ما سيدفع لاحقاً بالساحتين السورية واللبنانية إلى إعادة بناء معادلتين جديدتين للمنطقة التي باتت تُعرف بالساحل الشرقي للبحر المتوسط.
واستطراداً، فإنّ التركيز يتمحور الآن حول الاتفاق النووي، فيما يبدو الملف اللبناني متروكاً للمرحلة اللاحقة. ولأنّ «حزب الله» يدرك حجم التحولات التي تنتظر المنطقة، ولا سيما سوريا ولبنان، ألمح القريبون منه سابقاً إلى استبدال المعادلة القائمة على اتفاق الطائف بمعادلة اخرى، قيل انّها المثالثة، رغم نفي «حزب الله» لذلك. لكن واشنطن التي قاربت هذه التغييرات الدستورية من الزاوية الاقليمية رفضت ذلك. واندفعت السعودية لتثبت اتفاق الطائف، والذي اصبح بنداً أساسياً على ورقة ثوابت أي سلطة سياسية مستقبلية، الى جانب رئيس للجمهورية وفاقي، او بتعبير أوضح لا ينتمي إلى المحور الايراني، وبخلاف ما قامت عليه السلطة في لبنان منذ العام 2016، تاريخ وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
لكن «حزب الله» يدرك انّ عامل الوقت مهمّ جداً، وانّ الانتظار قد لا يلعب في صالح استمراره بالقوة التفاوضية نفسها. وهو يدرك انّ ظروف المفاوضات قد تتبدّل بعد تركيز المسار في المنطقة باتجاه وجهة جديدة، وبالتالي فإنّ ما قد يناله اليوم قد لا يكون مضموناً غداً.
ومن هذه الزاوية، قرأت مصادر ديبلوماسية اميركية في المناورة العسكرية لـ«حزب الله»، والتي فاجأ حصولها الكثيرين، بأنّها رسالة موجّهة الى واشنطن لاجتذابها الى التفاوض الآن حول المرحلة اللبنانية المقبلة.
لكن الردّ الاميركي بقي بارداً، ما يعني انّ الأولوية هي للملف الايراني، وانّ الملف اللبناني متروك لمرحلة لاحقة. وبالتالي، فلا بدّ لـ«حزب الله» ان يكون قد ادرك بأنّ رسم اللوحة اللبنانية مؤجّل لبعض الوقت، ولذلك هو يتصرّف على هذا الأساس، فلا هو في وارد تبديل الشروط المطروحة الآن للاستحقاق الرئاسي، ولا الفرنسي سيعاود هجومه الضاغط، ولا القطري ومن خَلفه السعودي سيدخل في التفاصيل الحساسة. وخلافاً لما ذُكر، فإنّ الوفد القطري لم يحدّد بعد موعد جولته الثالثة، ولو انّها قد لا تكون بعيدة.
وصحيح انّ الاتفاق بين أطياف المعارضة و»التيار الوطني الحر» على اسم جهاد ازعور أدّى الى كسر رتابة الجمود الحاصل حول الاستحقاق الرئاسي، الّا انّ اي نتيجة قريبة لن تتحقق.
ويعود الفضل لكسر هذه الرتابة للنائب جبران باسيل، الذي عاد من باريس وقد أجرى تعديلاً على موقفه. وتقول اوساط ديبلوماسية باريسية، انّ باسيل سمع بأنّ المبادرة الفرنسية التي اصطدمت بعوائق عدة، تدرك بأنّ الحل يجب ان يحظى بموافقة «حزب الله»، الذي يطرح سليمان فرنجية، وانّ البديل عندها هو قائد الجيش الذي تطرحه واشنطن والرياض ضمناً. ووفق هذه المعادلة التي رسمتها باريس، عاد باسيل الى بيروت ليسمّي ازعور هرباً من فرنجية وعون. لكن ثمة مشكلة جديدة وقع فيها باسيل، وتتعلق بالحفاظ على تماسك تكتله، خصوصاً في حال دعا بري لجلسة انتخاب. ففي المبدأ لن يُقدم بري على هذه الخطوة لأنّها غير مضمونة لمرشحه، لا بل على العكس، وسط فيتو صارم لـ«حزب الله» على ازعور. وفي حال قام بذلك تخفيفاً للضغوط عليه، فإنّ وليد جنبلاط الذي اعلن استقالته من زعامة حزبه تجنّباً لضغوط بري، سيدفع ضمناً نواب «اللقاء الديموقراطي» للاقتراع بورقة بيضاء، مرة لتوجيه تحية لـ»حزب الله»، ومرة ثانية لاستعادة موقع بيضة القبّان النيابية. وسيلاقيه بذلك نواب «التيار الوطني الحر» الخمسة، رفضاً لتفرّد باسيل بخياره ودعماً لتبنّي ترشيح ابراهيم كنعان. وباسيل الذي انتظر ان يُقدم «حزب الله» على مفاوضته لدى طرح اسم ازعور منذ اسبوعين من دون ان يلقى جواباً، يدرك صعوبة تسويقه لأزعور لوحده لدى قواعده الحزبية، وسيعمد الى الطلب من الرئيس ميشال عون مساعدته لمهمّة التسويق الداخلية وللضغط على نواب «خيار كنعان» للالتزام بقراره، كي لا يظهر اقتراع التكتل هزيلاً، خصوصاً مع نية نواب الطاشناق والنائب العلوي الذهاب الى خيار الورقة البيضاء. لكن النواب الخمسة قرّروا التمسك بموقفهم بشكل نهائي.
باختصار، فإنّ الاسلوب السياسي الهزيل وأنانية الطبقة السياسية لا ينتجان سوى طبخة بحص.