فيكتور هوغو شاعر زرع على ربوة التاريخ زهرة الإلهام
فيكتور هوغو شاعر زرع على ربوة التاريخ زهرة الإلهام
نسرين بلوط
Saturday, 06-May-2023 07:13

إنّ سرمديّة الوصف التي تُعتبر آخر نقطة زيت في موقد إحساسه، والتي قد تخلّد أو تبدّد الموصوف بنقدٍ أو اطراءٍ ما، تلازم الكاتب حتّى العزلة الأخيرة في محراب تأمّلاته التي ينأى بها عن العالم، ويسمو عن غوغائيّتهم وضجيجهم وشهواتهم المهدورة على صغائر الأمور، حيث يحكم الجسد الضمير ويكتمه ويُخرس أنفاسه، حتّى تنصرف أعمارهم على قشورٍ ماديّة بحتة لا تضيف لكيان الانسان وهجاً أو ألقاً، بل تصيبه بالكساح النفسي وتضنيه بلا تردّد.

وإذا تناولنا الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو في قالب الشاعر، وهو الذي لُقّب بوحش الأدب الفرنسي، وتوغّل بعيداً في أصفاد الغيب وأنّات جرحه، وهو الذي مشى في شرايينه وتدفّق في دمائه وتركه في نزاعٍ مريرٍ ساكنٍ مع الزمن، ندركُ بأنّ اللوعة التي أغوت كلماته بفتنتها المتسربلة بالحب، قد اكتسبت نضجها من الضوضاء الهادرة التي وفي غمرة انخطافه الشعري، كانت تذكّره بأنّ الواقع مرير وأليم، وتختلج برغبة الانبثاق البعثي من لبّ النور إلى غمرة الفضاء الواسع. وهكذا عندما رحلت ابنته ليوبولدين بعد غرقها في نهر السين، شعر بأنّ الحبّ الذي يزفّها إليه يلتهم الغيوم المنزلقة وتنفتح له أبواب السماء، فسار راثياً لها مطأطئاً حنينه ومكتّفاً بأشواقه ولوعته وقال: «غداً عند مطلع الفجر، حين تتسربل الحقول بالأبيض، سأشدّ الرحال. تيقني أنني أشعر بتلهفك إلى رؤيتي، سأسلك طريق الغابة والطريق الجبلية، فأنا لا أطيق صبراً على فراقك أمداً، سأمضي وعيناي لا تفارق أفكاري، لن يزيغ بصري ولن أصيخ السمع إلى أي صوت، وحيداً،غريباً، محدودب الظهر، مضموم اليدين، حزيناً، يسري نهاري مثل ليلي، وعندما يجن الليل الذهبي لن ألتفت إليه، ولا إلى القوارب التي تلوح من بعيد متّجهة صوب هارفلور، وعندما أصل، سأضع على قبرك، باقة من البهشية الخضراء والخلنج المزهر».

 

يبدو هوغو توّاقاً لأن يتسلّق النبات المعترش في مروج الشغف، يتمرّغ بالغصّة التي تجثم في صدره ويقدح صدره بصداها، متمرّداً على الموت وهو يصغي لاختلاجات الحياة الصاخبة التي لم تترك ابنته إلّا جثّة هامدة، ليرتجّ وقع كلماته صرخاتٍ لا تُحصى، انطبعت بأحزانِ الطبيعة التي تهيّئ له طريق الغابة مضجعاً لكآبته، ليعيش في خرابٍ نفسيّ داخليّ يتوالى مع تدفّق سطور قصيدته، ليفسّر كلّ حركةٍ يتنفّس بها النسيم بغايةٍ للوجود، ويتلوّى برقصة البوح الدامي، فيحرّك الانطولوجيا الخامدة التي لطالما أخمدها في أعماقه وتطفو على سطح التساؤلات، وتنصهر مع الابستمولوجيا التي تنصّ على الاعتقاد والتبرير والتحليل وترابط الأشياء، وتزفرُ على طاولات الرخام تراب القبر وأشلاء الزهر المبعثرة.

 

عاش هوغو في حياته قصّة تشبه رائعته «البؤساء» في فقدانٍ دائم للأمل، مثل تيجان الورد الذي يسقط في مساكبه دون رحمة. فقد رحل أطفاله وبقيت له فتاة وحيدة عانى معها من شحّ صحّتها النفسيّة، وقد مزّقته عاصفة الحياة رغم نجاحه وتألّقه الأدبيّ الباهر، وكأنّ المأساة هي من تخلق الكاتب الحقيقيّ وتجعل منه فيلسوفاً يهبّ لتعليلها، وشاعراً يمعن في تحليلها، وروائيّاً يتوغّل في مسالكها الضيّقة، فينصت إلى ربّة الالهام تعوده رغم غصصه وقصصه الأليمة الشاكية، وعندما أصبح في المنفى كتب يوماً: «أنا الطائر مثل ذلك الكائن، الذي كان عاموس يحلم به، وكان القديس مرقص يراه وقد برز من وسادته، والذي يمزج فوق رأسه المتعالي في الأشعّة، جناح النسر ولبوة الأسد الكبيرة، لديّ جناحان وأنا أطمح إلى الأعالي، وطيراني مؤكّد، لديّ جناحان للعاصفة والسماء، وقد صعدت المدرج بلا عدد، أريد أن أعرف متى يصبح العالم حالكاً مثل السماء، أنتم تعرفون جيّداً أنّ الروحَ تواجه هذه الدرجة السوداء، وأنّه مهما كان علوّها فإني صاعدها، وأنّي سوف أمضي حتّى أبلغ الأعمدة الزرقاء، وأنّ خطوتي وهي ترتقي السلّم الصاعد إلى الكواكب لن ترتعش أبداً».

 

فيكتور هوغو لم يستطع أن يكون مجرّد مومياء محنّطة في تلاطم البحر وفورة غضبه، بل تمرّد على القيود المحكمة، مع لمعات الهامٍ محبكة، ولم يقدر أن يعيش في غسقٍ متواصلٍ رغم الأحزان، فنزع عنه أشواك الظلام واصطفاق الزوابع في أثلام اليأس، وفاض شغفه حتّى بلغ أنحاء العالم، وبصم اسمه في تاريخ الأدب متنسّماً شعوراً كونيّاً بالرّاحة في تناغمٍ محموم، ومع أنّ جزءاً من روحه قد انطوى مع موت ابنته، إلّا أنّه احتفى على حافة الوهاد بألوان الشعر التي تُخمدها المراكب العابرة، بل تسبحُ معها في لازوردٍ منسكبٍ في لفحاتٍ انسانيّة خفقت لها الأجفان ورقّت لها القلوب المتشنّجة، لتزيد لآلئ أدبه سطوعاً وبزوغاً، ويتحسّر معه الكونُ على حزنه ويبتسم لنبض ابتسامته ويتلاشى ويعود للظهور مع كلّ عبارةٍ أو فلسفةٍ أو حكمةٍ يقرّ بها، ولا عجب فهو القائل: «كن كالطير تجثم على فرع واهٍ تشعر تحتك بالانحناء، لا تزال تغني بعيداً عن كل نفس».

theme::common.loader_icon