«رسالة عاجلة من أرض قمعستان:
قمعستان... تلك التي تمتد من شواطئ القهر إلى شواطئ القتل
إلى شواطئ السحل إلى شواطئ الأحزان
ملوكها، يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة
ويفقأون عيون الأطفال بالوراثة
ويكرهون الورق الأبيض والمداد والأقلام بالوراثة
ويلغون غريزة الكلام في الإنسان».. نزار قباني
في فترة التحضير للدورة الثانية لأوباما، شنّ مرشحون للانتخابات الرئاسية الأميركية حملة عليه على خلفية تصريح له يقارن فيه تنظيم الدولة الإسلامية وتطرّفه بتطرّف «الصليبيين» خلال الحملات الصليبية.
وكان أوباما قد أضاف: «إنّ الوحشية والإرهاب لا يقتصران على منطقة دون أخرى. فالحقيقة هي أنّه خلال الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش التي أُقيمت في الأندلس بعد هزيمة الخلافة هناك، ارتكب البعض أفعالاً شنيعة باسم المسيح، وفي بلدنا جرى استخدام المسيحية لتبرير العبودية وفرض قوانين التمييز العنصري».
في الولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يزال نصف الناخبين يؤمنون بقصص التوراة على أساس أنّه حقيقة مطلقة، إعتبر المرشحون تصريحات الرئيس بأنّها «مهينة وغير لائقة بالمؤمنين!» أي الصليبيين المتطرفين.
في كتاب «الحروب الصليبية كما رآها العرب» للكاتب المسيحي اللبناني- الفرنسي «أمين معلوف»، عرض بكل موضوعية محطات من تلك الحقبة، وكان واضحاً جنوح الكاتب نحو هجاء «تخلّف ووحشية الصليبيين» بالمقارنة مع نوع من الثناء على حضارة المسلمين في مسائل شتى وعلى قادتهم مثل « نور الدين زنكي» و «صلاح الدين الأيوبي».
إنّها الموضوعية أيها الناس، وهي القدرة على رؤية الوقائع بمنظار أبعد من القرية والمدينة والوطن والجماعة الدينية، وهي الأسمى من العقيدة والقومية والطائفة، هي القدرة على اتباع المعايير ذاتها في التوقف أمام الحدث وبناء الانطباع عنه، وصولاً إلى أخذ الموقف منه.
إنّها الأخلاق التي تسمو فوق العصبيات، إنّها الفكر الإنساني المتحرّر من العِقَد والقادر على مواجهة الأفكار المسبقة والموروث الاجتماعي والإرهاب المجتمعي، ليقف ويخالف ويحتج ويقول ما يراه أنّه حق، حتى ولو أدّى به ذلك إلى أن يُكفر أو يُخوّن لأنّ «أعظم الجهاد هو كلمة حق عند سلطان جائر».
من هنا، فأنا أعرف الآن بأنني سأثير غضب البعض في مدينتي، التائهة بين إرث عربي ومملوكي وعثماني وإسلامي، ينتقي مؤرخوها وعائلاتها التقليدية جزءًا من تاريخها، فيستندون إليه كحقيقة مطلقة، ويتناسون حقبات طويلة منه لا تتناسب مع فرضياتهم عنها.
في خضم كل ذلك، فأنا لم أفهم هذه الحماسة الغريبة في الدفاع عن الدولة العثمانية بخصوص قضية هي أصلاً موضع جدل ونقاش بين الأتراك أنفسهم.
لقد راجعت وقائع القضية الأرمنية، ولقد كان واضحًا أنّ السلطات التركية قامت بمحاكمات في تلك الحقبة لمسؤولين عن تلك المجازر بحق «مواطنين من رعايا الدولة التركية» وحُكم على بعضهم بالإعدام، ونجا كثيرون آخرون بتسويات دولية.
الشيء المؤكّد هو أنّ «أرمن» السلطنة العثمانية لم يفعلوا سنة 1915 أكثر مما قام به «عرب» السلطنة العثمانية بزعامة «الشريف حسين» في الحجاز، فهل نحلل للعرب نزعتهم إلى الاستقلال وتقرير المصير ونحرم ذلك للأرمن، فلو كان العرب مكان الأرمن في تلك الفترة فما كان الموقف؟
ولنفرض جدلًا بأنّه كان للدولة التركية الحق بقمع النزعات الإنفصالية، خصوصًا في ظل الحرب العالمية الأولى والتهديد الروسي التاريخي لحدود السلطنة العثمانية، لكن ذلك لا يسوغ إبادة المدن والقرى وهدم البيوت وتجويع النساء والأطفال إضافة إلى فظائع أخرى هي جرائم حرب موصوفة.
ولو فرضنا أنّ كل ذلك تمّ تضخيمه نوعًا وكمًا، وأنّ بعض تفاصيله أصبح جزءًا من الأساطير الشائعة والتقليد الكلامي المرتبط بتأريخ الشعوب لتاريخها، ولكن واقعة «الترانسفير» أمر لا يمكن إنكاره، وكانت وقائعه تشبه الإبادة، عندما دُفع المدنيون العزل والعجز والنساء والأطفال للسير في شبه صحراء قضى الكثيرون منهم فيها جوعًا وعطشًا مرضًا.
قد لا يكون لكثير من أبناء مدينتي الرغبة في إبداء تضامنهم أو حتى تعاطفهم مع القضية الأرمنية، ولكن المنطق الوطني والإنساني يفرض على الأقل عدم استثارة عواطف مواطنين لبنانيين واستفزازهم، خصوصاً في الذكرى الفوق المئوية لمأساة إنسانية كبرى، مُتهم بها على الأقل أجداد الأتراك، وإن كان تحت راية ودولة غير الدولة الحالية.
إنّ قضية حقوق الإنسان مسألة لا تتحمّل النفاق، فضحايا الظلم والإبادة لا دين لهم ولا عرق، فهم أرمن وكلدان وأشوريون وغيرهم في تركيا العثمانية، ويهود ومعاقون وغجر وسلافيون في ألمانيا النازية، ومعارضون للشمولية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، وفلسطينيون تحت الاحتلال الصهيوني، وأكراد تحت حكم صدام، وسوريون تحت براميل الأسد، وأزيديون في مواجهة داعش في سهل نينوى، وكلهم من «أمّة الضحايا» والقتلة أيضًا من «أمّة واحدة».