

يبرز دوماً في ذاكرة الموسيقى اسم جوليان جلال الدين فايس الذي اتّخذ من حيّ حلبيّ قديم ملجأً لانعتاقه الفكري وتحرّره الروحيّ، ليبتعد على قدر ما أوتي من سعة الانشراح النفسي بين المستأثر والجامح والجازع في مطبّات الكون الوسيع، فيعلن تفرّده في عالمه الصوفيّ الذي دفعه لأن يستعير من اسم جلال الدين الرومي لقبه الأوّل، ويركب الصعاب مغرّداً من الغرب الذي هجر فيه قيثارته اللحظيّة من أنواع البوب والجاز، إلى عالم الشرق البديع الذي انصهر فيه مع آلة العود وإيقاع الناي الحزين وتعرّف فيه إلى مغنّي حلب أديب الدايخ.
يستعيد فايس قصّته مع ذاكرة الأنغام المتصاعدة من آذان مسجدٍ صغير، روّعت مكامن روحه وآنست مسامع نفسه التي تتوق للانبهار الكامل. وما لبث أن اختار الإسلام ديناً له، لتأثّره الجم بمبادئ الصوفيّة ومدى تأثيرها وتأثّرها بما تعشو النفس إلى نورها، لتصبّر الانسان على مضض آلامه وكثرة آثامه، لهذا، هجر الدنيا بشهواتها وملذّاتها وشكّل فرقته من تختٍ شرقيّ ضمّ موسيقيّين وآلات موسيقيّة شرقيّة متنوّعة، وسمّيت بمجموعة الكندي، ليقدّمها اكتشافاً محوريّاً إلى الغرب، ويجوب بها في محافل الفن، وقد شارك فيها الشيخ حمزة شكور ليقّدما سويّاً القدود الحلبيّة والموشّحات الأندلسيّة والمواويل المستوحاة من ناموس الصحاري العربيّة وخاصّة العراقيّة، متبوّئاً أحزانه وأوطانه، ويترنّم باختلاجات الروح وأنينها وانكسارها وانسحاقها أمام خسف الزمن وكدره وانقلابه الحثيث على الانسان، فيتمايل بحنينٍ لامتناهٍ ويعضّ على نواجذ الحرقة المتوثبة للقاء النور الأعلى الذي يكبّر له المتصوّفون دون أن تبصره حدقة.
كان لهذا الفنّان السويسري الذي ولد في باريس انتماءٌ كبير إلى زمن الأندلس الذي تأثّر به شديد التأثر وجرّب مراراً أن يدرك غوره ويحبك على نوله، لتتسلّل موسيقاه إلى عالمه مثل لازورد محتبس فكّ وثاقه الصوت المنبعث من أعماق الرحمة والضياء الغامر.
وإن تقرّبنا أكثر وقاربنا المفاصل الحاسمة في عالم التصوّف، ندرك بأنّ نوره غير آفل وظلّه ليس بزائل، فهو يلازم الأجيال بمعالمه التي لم يطمسها عابر، بأبصارٍ لا يعميها تأثيرٌ خارجي، حتّى ليندمجَ فيها المرء حدّ الاعتزال عن الدنيا وإيثار الوحدة والسكينة الدّاخلية والبعد عن الضوضاء المفتعل. هكذا، صنع فايس عالمه بلا تدجيل أو تبجيل للمظاهر الخارجيّة، ومضى مستنبطاً نشوته الروحيّة من الارتقاء الروحيّ الكامل عبر رقصةٍ شاملة تعتزل البدع، وتخترقُ حجب الزمن وموانع الانتقال نحو السماء بجوار الخالق.
هذا الشوق الجامح لله الذي يترجمه الصوفيّون بالموسيقى وابتكار رقصةٍ حارّة تنطلق من سحيق الأرض إلى نعيم السماء، يستنبط كرائم الأخلاق في أنفسهم ليدرك بصرهم قعر بصيرتهم وينفذوا من الظلام إلى النور لينهجَ دربَ الرّاغبين إليه، فيرى الجماد وكأنّه حطب تراكم على مرّ العصور ليعيد تشكيل هيئته من جديد، وينقلب الوجود إلى آلاتٍ تعزف وموسيقى تصدح وكؤوس تُقرع ونوافذ تُشرّع وأبواب تغلق وتفتح، وموائد من النشوة للرحمن.
قال فايس: «ولأنّ الموسيقى العربية الكلاسيكية شديدة الأهمية ومتعددة الجوانب، فهي عالم رائع، ومن ثم فهناك جدوى من بحثها. وأنا لا أفضل هذا المزيج الحديث في الموسيقى المعاصرة، فقد أصبح من السهل جداً تأليف موسيقى عالمية، ولكنها ستكون غير جادة، لأنّها لن تكون إلّا خليط من آلة العود وتوليفة آلية الكترونية وطبول. وفي النهاية لا يتعرّف المرء على الموسيقى بشكل جاد .وقد تعلّمتُ الموسيقى العربية الأصيلة بجدّية شديدة، وأقوم بتأليف الموسيقى دون استعمال الغيتار ومن دون خلط مع موسيقى العصور الوسطى أو موسيقى الفلامنكو. وأعمل خصوصاً على المقام وبالدرجة الأولى على نظرية الربع نغمة. وتستهويني النغمات ذات المسافات الدقيقة، لأنّ الفروق الدقيقة بين النغمات هي أهم شيء في الموسيقى، وهي موجودة في الموسيقى السورية والعراقية بصفة خاصة وأقل في المصرية، لأنّ الحضارة السورية والعراقية قديمة ومتنوعة جداً».
بعدّ رحيله، لم تنقصم عروة الرسالة التي قام فايس بتوجيهها إلى الحياة ساخراً منها ومن عبئها الثقيل، ومتصفّحاً ذنوبه ومرارتها، فقد أضحكه الدهر ولم يبكه يوماً لأنّ رسالته المنشودة كانت الوصول إلى السرّ السماويّ في عجائب الموسيقى وصورها الظاهرة والخفيّة لتزهق نفسه توقاً إليها ويستعجل من خلالها حتفه الغيبيّ، وربّما تحقّق له ما أراد.







