منذ ان انطلقت فكرة الاستعانة بصندوق النقد الدولي كمؤسسة دولية يمكن ان تقدّم تصنيفاً جديداً للبنان تعيد حضوره، ولو بالخطوات الاولى، في المجتمع الدولي على اكثر من مستوى ائتماني ومالي ونقدي واستثماري، تلاحقت المواقف التي تشهّر بسياسات الصندوق وتتجاهل إنجازاته. وتوقف المغرضون خصوصاً أمام سلسلة من التجارب الدولية التي خاضها في بعض الدول، والتي اعتُبرت «فاشلة»، متجنّبة الإشارة إلى الأسباب الفعلية التي قادت تلك التجارب لتكون قاصرة عن تحقيق أهدافها. ولم تلقِ الضوء عمداً، على المنظومات السياسية الحاكمة التي قادت مثل تلك التجارب إلى نوع من الفشل، وهو ما لم يكن في قدرة الصندوق تجاوزها، فأبحرت تلك المجتمعات في بحر الفشل وعُدّت من الدول المفلسة والمارقة.
وفي مواجهة منظومة اعلامية وسياسية وحزبية مؤثرة في بعض الأوساط الشعبية والحزبية اللبنانية، وتكتسب بعضاً من الصدقية، لم تنجح المساعي التي بُذلت لشرح مهمّة الصندوق. فهو لم يجبر أي دولة في العالم على القيام بما لا تستطيع فعله، ولم يقد اياً منها إلى ما لم يرتكز على حجم قدراتها، وما يرضي سلطاتها ومؤسساتها الدستورية وممثلي المجتمعات المدنية من مختلف القطاعات النقابية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والاعلامية. ولم يقتنع كثر من اللبنانيين بأنّ الصندوق يشترط هذه الموافقة الشاملة على أي اقتراح او خطوة مطلوبة لدى مختلف شرائح المجتمع في أي دولة تستعين به، وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها من ضمن مِهل محدّدة يمكن تقديرها مسبقاً، وذلك من أجل الحصول على جواز عبور يوفّره للعودة من العزلة التجارية والاقتصادية والمالية إلى الأسواق المانحة المفتوحة.
وبعيداً من التجارب الدولية المتعددة الوجوه التي اختلفت بين تلك الناجحة التي تمكنت من إثبات صدقية الصندوق بعد اكتساب رضا هيئاته التقريرية، وتلك الفاشلة التي عجزت عن نيل شهادته المانحة، بقيت التجربة اللبنانية فريدة من نوعها، باعتراف عدد كبير من الخبراء والعاملين السابقين في الصندوق والمؤسسات المماثلة له، ومعهم عدد من الاختصاصيين المحايدين غير المنخرطين في منظومة السلطات المتنازعة، وهو ما ترجمه وفده المقيم في لبنان وكشفته البعثات التفقدية التي زارته، وآخرها بعثة راميريز.
وتأسيساً على هذه المعادلة التي لم تعد تخضع لأي تشكيك، قياساً على التجارب السابقة الممتدة منذ ما قبل توقيع الاتفاق الأولي على مستوى الموظفين في 9 نيسان من العام الماضي، الذي استعجله المسؤولون اللبنانيون قبل أشهر قليلة على نهاية العهد السابق، فإنّ ما اطلقه رئيس البعثة أول أمس من تصنيف للوضع في لبنان، لم يحمل اي جديد. فما يعانيه اللبنانيون فاق كل تصور، وبات الفشل في الأداء الحكومي والمجلسي على كل شفة ولسان، وهو امر لا يحمل جديداً يُنذر بحجم المخاطر التي حذّر منها رئيس البعثة في نهاية جولته الواسعة على مختلف السلطات الرسمية وغير الرسمية، من دون ان يستثني الهيئات الإقتصادية والاجهزة العسكرية والأمنية، وتلك التي عقدها مع مجموعة من الخبراء من مختلف القطاعات الناشطة في لبنان.
وإن توقف المراقبون أمام بعض الملاحظات، فانّ اشارة البعثة إلى عدم حصول أي تقدّم على مستوى «الإصلاحات في لبنان» ووصفها بـ «البطيئة للغاية»، فإنّه قدّم لها أسبابها، عندما تحدث عن «درجات تعقيد الموقف». فالجميع يدرك مع اقتراب الذكرى السنوية الاولى لحفلة توقيع الاتفاقية بالأحرف الأولى، والتي باتت على مسافة ايام لا تتعدى الأسبوعين للاتفاق، أنّ شيئاً لم يتقرّر. ومردّ ذلك ليس بسبب الشلل الذي اصاب العمل الحكومي بفعل العجز عن تشكيل حكومة جديدة، بعدما تحوّلت حكومة نهاية العهد «حكومة تصريف الاعمال»، تفتقد ثقة السلطة التشريعية منذ ان تسلّم المجلس النيابي الجديد مهماته في 22 ايار وحتى نهاية ولاية رئيس الجمهورية في 31 تشرين الأول العام الماضي، إلى ان دخلت مبتورة تخضع للتشكيك في شرعيتها في مرحلة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها والتي اقتربت من ان تدخل شهرها الخامس نهاية الشهر الجاري.
وإلى هذه العوامل التي أفقدت مطلب الصندوق بالتعاطي مع مؤسسات تتمتع بكامل مواصفاتها الدستورية أهميته قبل ان يلزمها بأي اتفاق او مِهَل، فقد أنجز المجلس النيابي بعض القوانين المطلوبة بطريقة مجتزأة أفرغتها من مضامينها، فجمّد العمل بقانون السرّية المصرفية إلى مرحلة محدّدة عبرت من دون الإفادة من مفاعيلها، ووقّعت الحكومة عقداً للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان بمئات آلاف الدولارات ولم تُعرف نتائجه بعد، بما يوحي انّ صفقة ما قد عُقدت وانتهت مفاعيلها، وليس من حق أحد الإطلاع على نتائجها خوفاً من فقدان ما هدفت اليه، او عجزاً عن تحقيق المبتغى منها سياسياً.
ولا تقف الأمور عند حدّ الاستلشاق بما هو مطلوب، فقد أقرّ المجلس النيابي باعتراف بعثة الصندوق قانوناً مشوّهاً للسرّية المصرفية الذي اعتمد آلية تعجيزية تقرّ بدور للمتهم بإعطاء الإذن للتحقيق في حساباته ومصادر ثروته. وعجز بعد ثلاث سنوات من إصدار قانون «الكابيتال كونترول» في انتظار تهريب الأموال المشبوهة والمسروقة قبل التثبت من قانونيتها، وتلك التي انتقلت من المالية العامة إلى جيوب المسؤولين، وبعد تهريب رؤوس اموال اصحاب المصارف واعضاء مجالس إدارتها وأصحاب النفوذ الذي لا يُردّ. كما انّها لم تقدّم بعد قانوناً للتعافي الاقتصادي والمالي والنهوض بالقطاعات الحيوية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعدما تعدّدت المشاريع التي تحمي المرتكبين وتسطو على أموال المودعين وتنقذ ناهبي المال العام. كما تهدف إلى تجهيل الفاعل - المسؤول عمّا وصلت اليه البلاد. وهم ليسوا اشخاصاً في حدّ ذاتهم اياً كانت مسؤولياتهم، بمقدار ما هم من منظومة تتبادل الخدمات والمنافع، ولو من مواقع سياسية وحزبية وطائفية متقابلة، جمعتهم الرغبة في الإثراء غير المشروع والسطو على المال العام وعمليات النهب والسرقة المقوننة بشكل من الأشكال.
وإن توقف المراقبون امام النصيحة التي وجّهها وفد الصندوق للحكومة اللبنانية اول من امس، بالتوقف عن الاقتراض من المصرف المركزي، تكفي الإشارة إلى القرارات التي أفرغت صندوقه من الإحتياطي الإلزامي، في عملية حماية ودعم للمشتقات النفطية والأدوية والمواد الغذائية والقمح، من دون اي تصنيف دقيق يحاكي حاجات الناس من فئآت مهمّشة ومحدودة الدخل، وقدّمت المليارات إلى التجار الكبار والمستوردين، بعد التوقف عن الإيفاء بالتزامات لبنان الدولية تجاه ديونه الخارجية وحاملي سندات اليوروبوند بأرقام زهيدة لم تتخطَّ أولاها المستحقة في التاسع من أيار العام 2020 المليار ومئتي مليون دولار، فتبخّرت عشرات المليارات منذ اتخاذ ذلك القرار المشؤوم، وتلاحقت الانهيارات المالية وأسقطت المؤسسات المكلّفة بتصنيف الدول والمؤسسات موقع لبنان إلى أدنى المراتب التي لم تصل اليها أي دولة فاسدة أو مارقة في العالم.
هذا غيض من فيض، ومن المؤكّد انّ المقال لا يتسع لقراءة ما أراده وفد صندوق النقد من تحذيراته، ولو كان بقدرته، فهل كان سيحاكمهم؟ فقد ثبت انّ في لبنان من لا يهابه من بين المسؤولين ولا يسأل عمّا يريده، وهم مستمرون في غيّهم، يناقشون في جنس الملائكة، للاستمرار في مواقعهم اياً كانت النتائج المترتبة على سياساتهم، وقد تكون من مصلحتهم زيادة عدد الفقراء والمهاجرين - المهجّرين إلى اصقاع العالم.