«هانس لودايزن» شاعرٌ للقوّة والقداسة العاطفيّة
«هانس لودايزن» شاعرٌ للقوّة والقداسة العاطفيّة
نسرين بلوط
Wednesday, 08-Mar-2023 06:32

كثيرةٌ هي القصائدُ التي يغامرُ الشاعرُ في كتابتها وتبقى مدفونةً في غبار درجه، حتّى يكون قد ارتأى بأن يحسرَ عنها العتمة ويظهر فيها جراحه المموّهة بتعابير مجازيّة التي يستبسلُ في إظهارها كي تكونَ عبرةً لغيره. فهو يدوزن مزمار كلماته على نهج الطبيعة بأنغام جارحة جارفة، حتّى لا يقوم بخطوة عاثرة، لأنّ كتمانَ أحاسيسه يشقُّ عليه ويصعبُ كلّما حاول ذلك، فيفرغُ جامّ روحه بين طيّات الورق، لينعتقَ من غيوم الوحدة التي تعانقه وتطوّقه بانسلالها العجيب، حتّى يتوارى خياله وراء صقيع الانطواء ويعود إلى التقوقع من جديد.

هكذا، نلمح في قصائد الشاعر الهولندي هانس لودايزن الذي كتب مجموعة شعريّة واحدة طيلة حياته بعنوان «ورق الجدران»، ولكنّها اختصرت من خلال شعره الحر ميتافيزيقيّة الحياة وأسرار الوجود وأطياف الحنين، على ضوء الفوانيس التعبيريّة التي تلاحق خطواته، وتحصي نزواته، وتعدّ عليه خيالاته وتغلّف شهقاته، والحزن المحتجب خلف أسمال الظلام، وترتوي من خواطر الحب المتواثبة في قلبه. ربّما أثقلت عليه وحدته، وجذبته إلى أقاصي الصقيع والأماكن النائيّة ذهنيّاً عن محيطه، ولكنّه ينفلت منها ويمعن في التجديف باحثاً عن نفسه. في قصيدته «تركتني وحيداً» يقول: «تركتني وحيدا/ لكني سامحتك/ لأني أعرف بأنك موجود في مكان ما/ الليلة أيضاً، عندما ضعت في المدينة/ رأيتُ جسدكِ في زجاج الحمام/ والبارحة سمعتكِ تضحكين في الغابة/ أرأيتِ؟! أعلم بأنكِ لا زلتِ هنا/ مؤخراً، كنت في سيارة قديمة مع أربعة آخرين/ رغم أنكِ الوحيدة التي لم تنظر الى الوراء/ عرفت أنكِ الوحيدة التي عرفتني/ الوحيدة التي لا يمكنها العيش بدوني/ وضحكت/ كنت متأكداً من أنك سوف لن تتركيني غداً/ ربما سوف تعودين/ أو ربما بعد غد/ أو من يدري/ قد لا تعودين أبداً/ لكن، لن تستطيعي أن تتركيني».


كان لودايزن مقتنعاً بأنّ العالمَ وهميّ وليس حقيقيّاً، يصارعُ الانسانُ فيه القوى الذاتيّة الكامنة في عمق روحه، والقوى الخارجيّة المشبّعة بحمرة الجحيم، فكان يجمحُ إلى الانطلاق مدفوعاً بوثبةٍ جنونيّةٍ حارقة، لتطالعه الأزرار المحلولة لثوب الطبيعة، فيغامر ويحاور عناصرها وينتقد المعاول التي تبتغي هدمها، فهو يلتمس الحنوّ من المجهول، وينتدبُ الشعرَ رسولاً بينه وبين الغيب، ليأخذه الوسن الخياليّ صوب نافذة الفضول، فيصول ويجول في عمق الأشياء ويتأمّل الشمسَ وهي تضرب بسهامها السبلَ المعفّرة التي تحملُ الرّيحُ منها وإليها ترابَ التكوين الأوّل للإنسان. فيقول في قصيدة «صنعتُ نفسي بجهد»: سوف لن تقول: أنت لن تقول إنّ الوحدة تحتاج إلى كل هذا الجهد .إذا تدحرجت الشمس على العشب/ خذ إذن صديقي/ فصيلة النمل التي تعيش في قصورهم كرجل يعيش في خياله /انتظرها في المطر واحفر بعد ذلك أكثر/ الكريستال النقي أصبح رمالهم / في عين الليل تسكن أنت كطائر أسود أو كأمير في مخدعه التقويم يشير إلى السنة السابعة عشرة من فينيسيا / يغلقون بنعومة الكتاب انظر ! حذائك من الرق/ آه يا صديقي - هذا العالم ليس حقيقياً».


بالنسبة للشاعر لودايزن، فإنّ الكون راقدٌ في سباتٍ عميق، ويرين على سطحه السكون، وعلى الغمْر المنسكب في بؤبؤ الضباب، تتكسّرُ الأمواجُ المزبدةُ فوق صفائح الريح، حتّى تقتّم وهجَ الشعاع المتبقّي من عين الليل، لتغشاه السحب الرماديّة التي تغبّر الأشياء وتضع مازوشيّتها الدّامغة في رقّ العبوديّة والتبعيّة والخنوع.


عاش لودايزن متأثّراً بجوّ الطبيعة في هولندا، يبحثُ عن قصائد لم يستطع أن ينجزَها، يستودعُ احساسه في خير مستقر، وهو الخيال الذي منّ عليه بموهبة الصفح والفصح عن كلّ ما يجيش في أعماقه، فلا يخبطُ في فتنة التلهّي عن فكرة الموت الذي يلوح للجميع من دون سابق انذار، وقد كتب لأبيه قصيدةً تلتفُّ حول نفق الحياة المظلم ثمّ تدخل مطبّاته ولا تخرج منه أبداً لأنّ النهاية بالمرصاد. فيقول: «أبي، كنّا معاً/ في قطارٍ بطيء وبدون أزهار/ في تلك الليلة التي ارتديناها وانتزعناها معاً كقفاز/ كنّا معاً أبي/ بينما الظلام يقترب منّا/ أين أنتَ الآن من رحلةٍ صغيرة/ مع نسيمِ فرح وسيّارة خضراء/ أم أنّ اليوم لم يضع قفازه على الطاولة/ عندما يخفتُ الضّوء/ ويُشفى بلطفٍ في المستقبل/ والآن، أغلقتُ شفتاي الواهنتان/».


ينوّه الشاعر أيضاً بأنّ نعيمَ الدّنيا وضرّاءها يصبّان في خانة النفاد، والفناء ينتظر الجميع مهما طال الزمن، ليترامى صفيرُ العاصفة وتطغى حادّة على كلّ الكائنات.


هنا، تنبثقُ فلسفةٌ خاصّة ينتهجها لودايزن تتنازعها الأهواء، فنراه يتمسّك بتلابيب الحياة ثمّ ما يلبث أن يرتدّ عنها يائساً، عالماً بأنّ الفناءَ ينتظر الانسان في زاويةٍ ما، ويستغرق في تأمّلاتٍ مريرة تشي بفتورٍ وحماسةٍ مبتورة، فيأخذه الحنين إلى الاحتماء بظلّ الأب الذي لطالما بعث وجوده نسيم الأمل في حياته، ولكنّ الليالي المحمومة السقيمة التي داهمته بشغف الماضي تتلاشى أمام صدمة الحاضر. لأنّ وعيه الظاهر يمنّ عليه بالحقائق، واللاوعي المبطّن في سريرته يضنّ عليه بها. وهنا ينشأ الصراعُ والنزاعُ حول الواقع واللاواقعية، حول الحياة والعدم.


هانس لودايزن، شاعرٌ للقوّة والقداسة العاطفيّة التي ترتمي أمام هيكل النور ويستهويها عصيانُ الموت الذي لا يرحمُ النفوس، ونبض الحياة التي تغوي الشعراء وترسم حدود مملكتهم، ثمّ تفتحُ لهم باب الحريّة على مصراعيه، كي يجوبوا الفضاء ويكيلوا المديح والرّثاء، فلا يهزّهم فتور ولا يروّعهم نفور، ويحترفون العبور من ضفّةٍ إلى أخرى، ويجيدون القفزَ فوق مشاعرهم وعبر التواءاتهم الانسانيّة، لكنّهم يخفقون في احتراف الشعر، ويبقون هواةً في محرابه المقدّس، ويتركون نزعاتٍ من قصائد جميلة، حملت القليلَ من مشاعرهم والكثيرَ من انسانيّتهم والمزيدَ من تساؤلاتهم وشكوكهم وحيرتهم، يضجّ فيها الحزمُ والجزمُ والرسمُ الملتوي في دروب الحياة التي لم يشفِ ناموسُها تطلّعاتهم أو دهشتهم الأبديّة.

theme::common.loader_icon