الروم الكاثوليك من مأزوميَّة الواقع الى مأزقيَّة الكيان
الروم الكاثوليك من مأزوميَّة الواقع الى مأزقيَّة الكيان
جورج كلاس
Wednesday, 01-Feb-2023 07:23

الدور الوفاقي والواجب التوفيقي للروم الكاثوليك على الساحة اللبنانية وفي المدى العربي، يحمل طابع التلاقيات الروحية والحضارية التي طالما انمازوا بها في علاقاتهم العَيشية مع محيطهم الإسلامي بكل قِيمه وروحانياته ونُظمه الحياتية.

قد يكون السؤال الأكثر طرحا وإلحاحا في هذه الحال الاستثنائية التي يمرّ بها لبنان والمنطقة هو (سؤال الذاتية) التي تطرحه كل جماعة أو طائفة على نفسها في محاولة لِتلمّس ركائز وجودها وكيفية تفاعلها مع الواقع المأزوم وتعاملها مع دقة الظرف المفروض والطارئ.

 

هذا المسار الشائك من مأزوميَّةِ الواقِع الى مأزقيّة الكيان، يتطلّب التعاطي الواقعي والعملاني الجريء مع التحولات السياسية المستجدة والتغيرات الإقليمية الطارئة على الحالة اللبنانية العامة، التي فرضت على الجماعات والطوائف اللبنانية واقعاً غريباً عنها وغيرَ مألوفٍ في سلوكيَّاتها في أخلاقيات التعاطي مع بعضها، وتطلعاتها المشتركة لصياغة مستقبل أوضح وأَثبت تركيزاً لبناء علاقة تعايشية محصّنة مع المكونات المجتمعية التأسيسية للوطن، تتطلب من الروم الكاثوليك ان يرجعوا الى ذاتيتهم ويصفنوا عميقاً ليتذكروا ما كانوا عليه ماضياً من تراثات روحية ووطنية وفكرية، ويفكروا بما هم عليه اليوم من وضعية حيادية وانكفاء واختباء، ويتّعِظوا من دروس الزمن، ويتبصّروا بما قد يواجههم في قابل الأيام من تحديات مهددة لوجودهم الكياني، قبل أن يأكلهم الزمن وينساهم التاريخ ويكتشفوا فجأة أنهم اصبحوا على رصيف الوطن، بعد أن كانوا قلبَ لبنان ومن صخرات زوايا بنيانه.

 

السؤال الأصعب الذي يطرح الآن ويلحُّ بقوة هو سؤال الذاتية الكيانية الباحثة عن نفسها في ضبابية الضياع، لتسأل أينَ نحن؟ مشفوعة بسؤال المرجعية المُتلمِّسة لدورها ولتهجس مَنْ نحن؟

 

بعيداً عن مثلث تبرير القصور، كالإختباء وراء اتهام الآخرين، والإمعان بالتوبة والندم، والتخوّف من الآتي، من دون أن نَجرؤ، ككنيسة وعلمانيين، على أن نطرح على أَنفُسِنا السؤال الوجودي الأكبر، كيف نبادر؟ أو كيف نرجع الى ذاتنا وكيف نحضر من جديد؟

 

والأمر الذي يفرض نفسه بقوة في الوجدان العام للروم الملكيين الكاثوليك في لبنان اليوم، هو ما يعانونه من ضمور مؤلم على صعيد حضورهم السياسي، وضمور دورهم الوطني، بفِعل الوَهن اللَّاحق بالخيار السيادي، الذي توافقت عليه المكونات اللبنانية الكيانية الاساسية، التي سَعت وناضلت للوصول الى هذا الوطن-الصيغة، على أساس الشراكة التعادلية بالحقوق والواجبات، وليس النوم على حرير الوعود والتوجّس الدائم من الإنقلابات الخنجَرية، التي طالما احتملنا كلومها، حرصاً على التوافقية الظالمة للأقليات والتي أَنتجت فرقاء أَقوياء يتحصّنون بمنطق الأكثرية مرَّةً وبالقوَةِ العددية حينًا وحجَّةِ الظروف القاهرة كلَّ وقت، والتي أفرزت أقليات، خيار بعضها حرّ وثان متحرر والثالث استراتيجية تحركه تكون غب الطلب.

 

إنّ ما يقلق بالَ الروم الكاثوليك أكثر اليوم، وهم من بين أَكثرِ الطوائف توزّعاً في الديموغرافيا اللبنانية، هو خطر الانكفاء الطوعي والتهميش القَسري لدورهم الريادي والتوفيقي، الذي امتازوا به منذ نشوء فكرة الدولة اللبنانية وإنشاء كيانها، بعد أَنْ اكتشفوا انهم دفعوا وحدهم كلفة انتشارهم الحضاري ووجودهم التفاعلي البنَّاء مع كل المكونات والجماعات اللبنانية، وعاشوا الخَيبَة، انطلاقاً من انهم ليسوا طائفة جغرافية تمتلك مساحة أرضية مغلقة تنطبِع بخصوصياتها، بخلاف جماعات ومذاهب أخرى، ذات ثقل حضوري ووازِن مناطقيا وعدديا، مع التأكيد أن عدم امتلاك حيثيّة جغرافية لا تقلل من دورهم، ولا تحد من انخراطهم التصميمي والطوعي والإرادي في تعزيز كيان تَتكامل فيه الطوائف لتشكل وحدة وطنية، لا أَنْ تتعايش فيه مرحلياً بانتظار سنوح الفرص للانقضاض والاستضعاف والاستتباع والأخذ غيلة.

 

من حق لبنان على الروم الكاثوليك، أَنْ يسألوا بجرأة الخائف على التركيبة التوافقية التي صِيغت دستوراً فريداً، أين نحن، في لبنان؟ وأَيْنَنا من لبنان؟ وأين لبنان منّا؟

 

وإذ من السهل والصعب والواجب المُلِح ان نصارح ونكاشف، فإنه علينا أَنْ نعترف ونجيب بجرأة الواثق: انه في الماضي، كان لنا حضور فاعل، أيَّام كان لبنان قلعة تبنى بمداميك صوانية، تُرصف صخورها بالتضحيات والفكر والثقافة والأدب والوطنيَّات والدبلوماسية الذكية والجريئة. أَما في زمن الإِفساد وتنظيم الفسادات وشيوع التحاصصات والتراشق بالتهم وصناعة الحمايات وترسيم المحمِيّات، فقد أَمسَيْنا في وضعية تقلّص سياسي واضح وضمور تفاعلي فاضح للمسار وكاشف للغير.

 

نحن، ككل الجماعات اللبنانية، خيارنا الاول والوحيد والنهائي هو الدولة. ولسنا آسفين على خياراتنا، ولا نادمين على قراراتنا، ولا نحن خارج المسؤولية النسبية التي نتحمّلها بجرأة الواثقين مِن خطاهم، والشديدي الفخر بثلاثية تراثنا الحضاري، وقيمنا الروحية، وتواريخنا الوطنية.

 

ولعلّ المأزومية الحادة التي نعاني إرهاصاتها اليوم، في هذا الظرف الدقيق والمليء بالأزمات التي يقاسيها لبنان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تتلازم بقوة مع اكتشافنا فجأة أنّ دورنا الوفاقي والتوفيقي، الذي تَغنّينا به وفاخَرنا بإنجازاته، مهدّد الوجود بفِعل التمايزات الفردية التي ارتَضتها كل جماعة لنفسها، وانشغلت ببناء استراتيجيتها المستقبلية الخاصة، معتبرة انّ ما تحققه من نقاط، يخوّلها ان تبني لها امتيازات حصرية، من دون أي اعتبار لمفاهيم الشراكة الوطنية، ونهائية الولاء، وصراحة الإلتزام، والتأكيد على الدور المحوري للبنان، بصيغته ورسالته ومعنى حضوره.

 

ما نَتحرّق عليه ونحترق منه، أننا صدّقنا أنفسنا كثيرا عندما كنّا نُكابر أننا من الطوائف الكيانية المؤسسة للبنان والمكوّنة لنوعيته، معتبرين أنّ كل ما لنا هو لنا ولغيرنا، لنتفاجأ في غفلة زمنية أننا َمنسيون أو مُستضعفون أو مهمّشون، لأننا نفتقد الى جغرافية حضورية ضمن الخارطة اللبنانية، ولأنه لم يكن لدينا ذراع عسكري نستقوي به ولا حزب سياسي نتّكِل عليه. وهذه حقيقة جريئة تشغل بال كثيرين من ابناء الطائفة المألومين من الواقع الأسود الضاغط على الوضع العام في لبنان اليوم.

 

معروف عَنّا نحن الروم الكاثوليك في سياق التوصيف الملازم لسلوكياتنا أننا طائفة وفاقية وتوفيقية ونعيش الأزمات ونتكيّف معها، لكننا لا نتعايش مع مفاعيلها، لا لقصورٍ في الرؤية ولا لنضب في التفكير، بل لإيماننا الصلب بقدرة الدولة على إنصاف كل ابنائها وإقامة العدل بينهم، على قاعدة عدالة التشارك، وبعيداً عن الإستضعاف والإلغائية والإستتباع.

 

إنّ علاقة الروم الكاثوليك بلبنان، هي في صلب ثوابتهم وصلب قرارهم وخيارهم وفكرهم، ولن تزيحهم عن ذلك أحداث ولن تهمّشهم طوارئ الأيام.

 

فالمأزومية التي تؤلمنا بمواضع وأوجاع كثيرة، لا تعفينا أبدًا من الإعلان جهراً اننا نعيش مأزقية وجودية، تمتد من السياسة الى المرجعية الى استعادة الموقع وريادة الدور.

 

وبين ثنائية المأزومية والمأزقية، تكثر أمامنا التحديات الوجودية، وأبرزها، السؤال كيف علينا ان نتحضّر لننطلق من جديد؟

 

وهل ننجح بالانتقال من وضعية الوفاقية الإلغائية، الى استعادة الريادة وتحصين خصوصية الحرية ؟ و كيف نؤسس لمستقبل تشاركي ، ركيزته الأولى أَنْ نبني ذاتية كاثوليكية نوعية تتكامل مع الذاتيات اللبنانية كلها، من حيث أننا لا نرضى ان نكون ضيوف شرف في أرضنا، ولا كمالة عدد على لوائح شطب الوطن ولا ضيوفاً على رصيف الوطن.

 

إنّ الكلام عن أزمة الواقع الذي يترك ندوبه على فاعلية وجود الطائفة ويحدّ من دورها الوطني، يضغط بكل وجوهه على مجالات تحركها وساحات تفاعلها وتلاقيها مع المكوِّنات المجتمعية الأخرى. غير أن الأمر الأكثر إلحاحاً في هذه الظروف الدقيقة من حياة الوطن، هو كيفية بناء الجهوزية اللازمة للخروج من وضعية المأزقية للعودة الى التألقية، واستعادة الريادة ؟

 

وهذه من التحديات المُلقاة على أكتاف وعقول الروم الملكيين الكاثوليك في لبنان، بكل مرجعياتهم الروحية ومَسؤولياتهم الوطنية وتوزّعاتهم السياسية وثوابتهم الفكرية وتراثاتهم الادبية وإبداعاتهم الفنية ونشاطهم المدني وتاريخهم الوطني وتفاعلهم السياسي وفِعلهم الحواري والتلاقوي بين الثقافات والحضارات والاديان.

 

وهذا ما نطمح لوضع ترسيمة استراتيجية واضحة لتحقيقه، من خلال الدعوة الى عقد جلسات تفكير هادئة تستعيد كيانِيّتنا الحرة، وتطرح الهموم والإنشغالات والمخاطر الوجودية وتضع مساراً دقيقاً للخروج من الازمة العابرة التي نعيشها كمجتمع لبناني متكامل، توصّلاً الى تركيز قواعد ثابتة تحافظ على خصوصياتنا وتؤكد تشاركيتنا الكيانية، كعنصر مكوّن للبنان الغد الذي نطمح ان يكون على قدر حبنا للبنان..!

 

الروم الكاثوليك جماعة لا تَستغِل ولا تُستغَل، لكن علينا أن نبادر ونستعيد موقعنا على الخارطة السياسية والسيادية، لنبقى علامة وفاق ورسل توفيق. نحن مِلح يملِّحُ ولا يذوب..!

theme::common.loader_icon