ماترلينك، شاعر مسرحيّ من وراء شفّ الستارة
ماترلينك، شاعر مسرحيّ من وراء شفّ الستارة
نسرين بلوط
Saturday, 28-Jan-2023 06:37

أن ينبش شاعرٌ عن الخطّ الفاصل بين الموت والحياة، وسط الركام المُتناثر مع كلّ الظروف المتصارعة التي تشكّل دائرة الحياة، يعني أنّه أخذ على عاتقه رَتق الجانب الفلسفي الغامض في العلاقة المتسلّقة بين العدم والجدل، وهذا بحدّ ذاته إنجاز بارع لا يقدر على مجاراته إلّا من تروّى وتبنّى العمل الإبداعي من لحظة المكوث على أعتاب البداية وحتّى تجاوز الخطوط المبهمة التي تُباعد بين الحقيقة والخيال.

هكذا، تماهت أعمال الكاتب والشاعر البلجيكي الأصل موريس ماترلينك الذي مازجَ بين نصّه الشعري وتجليّاته المسرحيّة فابتكر ما يشبه التمثيليّة المحبكة التي تتشابك أطرافها وتتضافر عناصرها في شبكة عنكبوتيّة وأساليب زرادشتيّة تراوح بين الأسطورة والواقع والخيال والأرض الصلبة التي يقف عليها الإنسان. وبلا خور، يصبّ كلّ مشاعره المتناسقة بين هلالين يمثّلان التصوّر والتطوّر، تصوّر ما ينبع من النفس البشريّة من تكتلّات متناقضة من خير وشر، وتطوّر المخيّلة عند القارئ ليبلغ ذروة الارتقاء وهو يفرج عن القليل من الاحتباس الداخلي الذي تكتنفه روحه.

 

وبالرغم من اختلاط ماترلينك ببعض رموز المدرسة السريالية في التعبير، فقد آثر التوجّه نحو الاصطكاك الرومانسي بين الهجر والعشق، لتتنفّس رئة الشعر رياحين الرومانسيّة التي تهيّأت له مدرسة احتوائيّة ينهل منها ولا تشحّ مواردها. في قصيدته «ماذا أقول له؟» يضع هوامش اللقاء ونهايته في صورة قصّة صغيرة ينفح فيها من أنفاس العتب فيحاكي ويتجاوز ويناغي ويتبارز مع خيال الطيف الآخر، متأثّراً بشخصيّة تروبادور الشخصيّة التي كانت تلفّ بين القصور في القرون الوسطى لتنشد قصيدة وتعزف على قيثارة الوعود البرجوازيّة المثاليّة الشفّافة التي تبرق كالوهم وتنطفئ كالسراب. يقول ماترلينك في قصيدته: «وإذا عاد ذات يوم/ ماذا ينبغي أن أقول له؟ قولي له: إنني انتظرته/ حتى مت من الانتظار/ وإذا سألني أيضًا/ دون أن يتعرف إليّ/ تحدثي إليه كأخت/ فلعله يعاني.. وإذا سأل: أين أنتِ ؟/ بماذا ينبغي أن أجيب؟ أعطيه خاتمي الذهبي/ دون أن تجيبه بشيء؟ / وإذا أراد أن يعرف/ سبب فراغ صالة المنزل؟/ أريه المصباح المطفأ/ والباب المفتوح / وإذا سأل حينئذ/ عن اللحظة الأخيرة؟/ قولي له: إنني ابتسمت/ خشية أن يبكي».

 

هذا النفاذ المتكامل نحو الاختلافات والسعي المتواصل نحو لملمتها لتتكوّن لنا صورة للمشاهد المتتالية، توحي لنا بشذرة مجتزأة من مثالٍ عاطفي يعي ما يتأتّى من المجهول ويستعدّ له مُناظراً إيّاه، ليزاوج ابتكار الخيال واحتضار العواطف الخائبة.

 

فمن وراء شفّ الستارة خيالاتٌ استثنائيّة يرصدها برؤى محتقنة في اللاوعي، ويؤجّجها بشوق العاشقين الذي يسحق كلّ الاحتراقات والاحتمالات الواردة لتفضي إلى مفارق محدودة أو مسدودة يحدّدها فكره الذي يمازج عاطفته في الانسياق، فيخلق طوبائيّة ذاتويّة فريدة تتّحد مع عوالم الآخرين وتلتحم معهم. فالغياب المستديم للعاشق يخلق لديه ثورة انقلابيّة تحيا في جوانب قرائنه لتولّد لديه شرارة التأمّل، فيلجأ للتصعيد والتغريد في غياهب نفسه ورهبة الشوق الدفين.

 

سعى مارترلينك المختنق برؤى الحياة الى أن يعوم في برقع الجوانب الخفيّة منها، فابتكر وانتصر للحريّة، واحتوى مجالات الرقص حول هياكل التفكّر، لنلمح دائماً بين وثنيات حروفه نوعاً من التساؤل والشرود والتكهّن والتفنّن في أسرار الوجود، ففي قصيدته: «قبّة الغطّاس الزجاجيّة» يقول: «أيّها الغطّاس الذي لا يبارحُ قبّته الزجاجية!./ بحرٌ برمّته من الزجاج، دافئ مدى الدّهر/ حياةٌ لا تتحرّكُ على الرقّاصات البطيئة الخضراء !/ ولَكَم من كائن عجيب خلَلَ الجوانبْ !/ وكلّ ملامسةٍ محظورةٌ مدى الدّهر/ بينما ألفُ حياةٍ وحياةٍ في الماءِ الرَّيِّق خارجاً !/ حذار ! ظلُّ الأشرعة العظيمة يمرُّ على أضالي الغابات في قعر البحر/ وأنا ، الى حينٍ، بظلِّ الحيتان التي تيمّمُ القطب/ في هذه الهنيهة، أظنُّ أنّ الآخرين يفرَّغون في الميناء مراكب ملأى بالثلج !/ لقد كان لا يزالُ باقياً بين مروج تمّوز جبلٌ من جليد !/ إنّهم يسبحون القهقرى في ماء الخليج الأخضر !/ يدخلون عند الظهر في كهوف دهماء !/ ونسائم العرض تمسح السُّطوح/ حذار ! هاك ألسنة «الغولف ستريم» تندلعُ لهباً !/ نحِّ قبَلَها عن جوانب السّأم !/ ولم يضع الناسُ من بعدُ ثلجاً على جبين من تملّكتهم الحمّى/ لقد أوقد المرضى ناراً من فرح/ وهم يطرحون الزنابقَ الخضراء في اللهبِ بملأ اليدين !/ ساند جبينك إلى الجنبات الأقلِّ حرارةً/ بانتظار القمر في أعالي القبّة الزجاجية/ وأطبق عينيك جيداً دون غابات الرقّاصات الزرقاء، والآحين البنفسجي / فلا تصلُ الى سمعك وساوس الماءِ الدافئ ./ امسح رغائبكَ التي أوهنها العرق/ إتّجه أولاً شطر الذين هم على وشكِ الإغماء/ فإنّهم وكأنّهم يُحيون عرساً في سَرَبْ/ فإنّهم وكأنّهم يدخلون ظهراً في جادَّة تُضيئُها المصابيحُ في قعر نفقْ/ يجتازون، بموكب عيد، منظراً يشبه طفولة يتيم».

 

هي حمرةُ الحميم التي يرزح تحت أنوائها الشاعر المسرحي ماترلينك الذي ينبض حياة ويسخر من الموت ويحيي الظلام وهو رميم من دم الذكريات، فنراه يحرّك الكلمات بأصابع هشّة وعزيمة متّقدة، يعود إلى مسرحه الخشبي متأبّطاً قصيدة ومتندّراً على إيقاع الزمن الحي، يذكي قلبه بسرّ النجوم والبحر والكهوف وعناصر الطبيعة التي تمطر عليه بالإيحاءات الرمزيّة والنفسيّة فيبحث عن ساحةٍ مفروشة بالأوراق النادرة التي يجود بها القلم مرّة واحدة على صاحبها ثمّ يترك قبل أن يرحل شيئاً قليلاً من ذاته وصخباً حافلاً من الريح الضاحكة التي تعبث بفكرة الانفصال الأبدي بين الحياة والموت وماورائيّات هذا الكون العجيب.

theme::common.loader_icon