ليس من السهل تقويم التجربة التي يخوضها النواب المعتصمون في القاعة العامة لمجلس النواب في يومها السادس بمعزل عَمّن دانَ الخطوة او سخر منها او رحّب بها منذ اللحظة الاولى. ذلك أنه من المبكر الحديث في ظل «سعدنات نيابية» عن خريطة طريق لانتخاب الرئيس نتيجة فقدان «هندسات دستورية» تنجز «هندسة رئاسية» لألف سبب وسبب. وعليه، ما الذي يؤدي الى تفسير هذه المعادلات؟
من أسهل المقاربات الجارية للاستحقاق الرئاسي الاستمرار في منطق المناكفات ونصب المكائد بين مجموعة الكتل النيابية المتحكّمة بعملية انتخاب الرئيس على رغم من إجماع الاطراف كافة ومن دون استثناء على ان ليس لدى أيّ طرف أو قوة نيابية القدرة على توفير النصاب القانوني والدستوري لانتخاب الرئيس طالما أنها باتت رهناً بتوافر نصاب الثلثين من أعضاء المجلس النيابي قانوناً وذلك من اجل الاستمرار في عقد الجلسة الأولى لانتخابه بهذه الاكثرية، كما في حال الانتقال من محطة الجلسة الاولى التي لا بد منها الى مرحلة انعقاد الدورات الانتخابية المتتالية التي يمكن ان تفضي إلى انتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة، اي بالنصف زائدا واحدا.
وعليه، تقول مصادر سياسية محايدة ان هذا الاعتراف الذي لم يعد مطروحاً للنقاش نتيجة قطع الشك باليقين، انّ مثل هذه المعادلة تؤدي حتماً الى تحكّم الاقلية بالاكثرية التي تشكل أقسى ضربة لما يسمّى بالنظام البرلماني الديموقراطي. ذلك انّ إخفاء مثل هذه المعادلة بات مستحيلاً في ظل التركيبة النيابية المعقدة التي انتهت إليها انتخابات 15 أيار النيابية العام الماضي وولادة كتل نيابية مُشتّتة وفقدان الهوية السياسية للبعض منها بمعزل عن الكتل النيابة الكبرى التي بقيت عاجزة حتى الامس القريب من تشكيل القوة الضاغطة فيما بينها باستثناء تلك التي تتحكم بها «الثنائية الشيعية»، وباتت في موقع هو الأقوى عند قياس أي خطوة مطلوبة او مبادرة مطروحة على خلفية احترام الميثاقية الطائفية والمذهبية التي تظلّل عمل المؤسسات الدستورية في لبنان، وتحديدا على مستوى السلطتين التنفيذية المتمثلة بالحكومة والتشريعية المتمثلة بالمجلس النيابي.
وإن نجحت المساعي التي بُذلت من اجل انعقاد الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء التي انتقلت إليها صلاحيات رئيس الجمهورية غير اللصيقة وفق المعايير الميثاقية الطائفية والمذهبية، فإنّ ايّ مسعى لتأمين انعقاد جلسة نيابية يمكن ان تنتهي الى انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية لا بد له ان يصطدم بتضامن «الثنائي الشيعي» في اكثر من محطة، وحتى في حال الوصول إلى مرحلة توحيد نواب قوى المعارضة والتغييريين والمستقلين - إن تحققت إحدى المعجزات غير المسبوقة - فكيف في حال التشتت التي أصابت تركيبة المجلس النيابي في ظل ما ولّدته الانتخابات من كتل صغيرة مبعثرة لا يجمعها رابط او مبدأ واحد، حتى تلك التي خاضت الانتخابات النيابية بالتكافل والتضامن بين أعضائها قبل ان يصيبها التشتت.
ومَن أراد النقاش في هذا الموضوع ما عليه سوى العودة الى إحصاء المبادرات والمحاولات الفاشلة التي رافقت بداية البحث في انتخاب الرئيس منذ الاول من ايلول الماضي الذي شكّل بداية المهلة الدستورية التي سبقت نهاية ولاية الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون بستين يوماً، وصولاً الى مسلسل الجلسات التي عقدت في ظل خلو سدة الرئاسة من شاغلها قبل ان نصبح على عتبة الجلسة الثانية عشرة التي لا يمكن لأحد تحديد موعد انعقادها حتى كتابة هذه السطور. وانطلاقاً من هذه المؤشرات السلبية، لا بد للمراقبين من التوقّف أمام مجموعة من الملاحظات التي لا يمكن ان يتجاهلها أحد إن سعى الى توصيف العقبات التي تحول دون انتخاب الرئيس، والتي تلقي الضوء في الوقت عينه على السيناريوهات المحتملة المشتتة، كنتيجة حتمية للمواقف المتشابكة والمعقدة التي من المستحيل حتى هذه اللحظة ان تقود الى جلسة طبيعية بكل مواصفاتها الدستورية لانتخاب الرئيس اعتقاداً من الجميع بأنها ستكون أولى الخطوات على الطريق الى إعادة لَملمة المؤسسات الدستورية والانطلاق بما يمكن ان يؤدي الى التعافي والإنقاذ من مجموعة الأزمات التي تعانيها البلاد.
وعليه، فإنه ليس في ذهن احد ما يمكن ان تنتهي اليه مجموعة اللقاءات المتتالية التي تعقد في السر والعلن بما فيها تلك التي يُبنى عليها كثيراً من احتمالات إحداث تغيير جذري في السباق الجاري الى قصر بعبدا. وعلى رغممن الإجماع حول أهمية أي خطوة جامعة فإنّ بعضاً من المواقف لا يمكن توصيفه بغير «السعدنة النيابية» بالمعنى الذي يمكن تفسيره والتمترس خلف مواقف ونظريات لا يمكن ان تؤدي الى كسر الحلقات المقفلة التي وقع فيها الجميع. فالاعتراف الشامل بعدم قدرة أي طرف على تأمين الاكثرية المطلقة عليه في الوقت عينه - إن صدق في نياته وأهدافه - أن يجري تبديلا أساسيا او انقلابا على مواقفه الحالية للوصول الى النقاط المشتركة التي من شأنها ان تُنتج مخرجا يمكن سلوكه.
وبناء على هذه المعطيات، لا يمكن للنواب التغييريين ومعهم المستقلون والمعارضون الاستمرار في تصلّبهم في مواجهة بقية الأطراف ما لم يتوصلوا الى توحيد مرشّحهم وتوفير الدعم الكافي للأقوى فيما بينهم وهو النائب ميشال معوض، او اختيار من يجمعه ورفع أرقامه الى الحد الاقصى. وهو امر لا ينسحب على هذه القوى بالذات، فلا يمكن للثنائي الشيعي وحلفائه من مختلف الاطراف ان يستمروا في تصلبهم إزاء مصير الدورات المتتالية لانتخاب الرئيس من دون الكشف العلني عن مرشحهم المُضمر خلف «الاوراق البيض»، وهو رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية إن كان هو المرشح النهائي.
وما بين هاتين الخطوتين المطلوبتين من أصحاب المواجهة المفتوحة بين معوض والأوراق البيض، لا يمكن لمجموعة النواب المستقلين المُنضوين خلف بعض الكتل النيابية المُحدَثة على خلفيات مناطقية الاستمرار في انتخاب «الشعارات المختلفة»، وهو ما يحول الى أمد بعيد دون أي تقارب محتمل بين هذه القوى لتلتقي على مرشح بات من الصعب انتظار اسمه من خلال اللعبة الخارجية التي لا يبدو انها ستتورّط كما في السابق في «الطبخة الرئاسية» الداخلية، وهو أمر لم يعد في حاجة الى التثبّت منه فالانشغالات الدولية لا تسمح لهم بالغوص في التفاصيل اللبنانية المُملّة.
وتُظهِر اللوحة الفسيفسائية التي تعبّر عنها هذه المعطيات كافة، انّ ما يجري من «سعدنة» نيابية ودستورية لا يمكن ان يؤدي الى «هندسات رئاسية» شفافة تنتهي بتوليد الرئيس العتيد، وانّ الحديث عن إنجاز يمكن ان ينتهي إليه لقاء وفد «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» بعيد المنال قياساً على حجم التسريبات التي سبقته وما رافق بعضها من تهديدات متبادلة بالذهاب الى الحد الصدامي الاقصى. وهو أمر ينسحب على مصير الاعتصام في مجلس النواب ومساعي النواب المعارضين ومجموعة المبادرات الفردية الفاشلة. وكل ذلك يجري في انتظار ما يمكن توصيفه باستحقاق كبير وخطير يؤدي الى فرض التغيير في موازين القوى والمواقف.. ولكن متى وكيف وعلى أي أسس؟!