بمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول 1948، عمّت احتفالات في لبنان وعدد من دول العالم بمناسبة هذه الذكرى الخالدة. أكّد «الإعلان» أنه «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، لقد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يتصرّفوا تجاه بعضهم بعضاً بروح الإخاء».
في هذه الذكرى كان لا بدّ من التركيز على رجلين ساهما في صنع «مجد لبنان» هما الدكتور شارل مالك والدكتور فيليب سالم، كونهما، أولاً يتحدّران من ضيعةٍ واحدة (بطرام - الكورة في شمال لبنان). وثانيًا، كونهما لبنانيين، يُقدّر لبنان والعالم دورهما الإنساني والفلسفي والفكري (والطبي بالنسبة الى البروفسور سالم). لذا، يصدر قريبًا كتاب عن الرجلين (مالك وسالم) هو كناية عن دراسة تتناول حياتهما وإنجازاتهما على هذه الأصعدة، ودور مالك في عملية إنجاز «الإعلان العالمي»، وكذلك دور سالم في اقتراح تحديث «الإعلان».
بطرام ضيعة شارل مالك وفيليب سالم تتصف بهدوء في طبيعتها الخضراء. تاريخ عريق من النجاح: وزيران للخارجية من ضيعة صغيرة وسط الكورة الخضراء، شارل مالك (1956 - 1958) في عهد الرئيس كميل شمعون، وإيلي سالم (1982 - 1984) في عهد الرئيس أمين الجميّل. وزيران مميّزان في الدبلوماسية والفاعلية والحضور.
بطرام أعطت طبيبًا عالميًا اسمه فيليب سالم (شقيق الوزير إيلي سالم). هو يتربّع اليوم على رأس مؤسسة طبية ذائعة الصيت (Salem Ocnology Center) في مدينة هيوستن الأميركية. طبيب ومفكّر له مؤلفات عديدة وأحد كتّاب افتتاحيات «النهار» منذ أكثر من خمسين عامًا. سأله مرة غسان تويني وكانا معًا على شرفة منزل صاحب «النهار» في بيت مري: هل تدوّن أفكارك يا فيليب على الورق لتحفظها من الاندثار؟ أجابه سالم: كلا. فنصحه تويني بتدوين أفكاره، لأنّ الفكرة التي لا تتعمّد بالحبر تموت. منذ ذلك الوقت، أصبح فيليب سالم أحد كتّاب «الافتتاحية» في جريدة «النهار» اللبنانية.
مالك وسالم: من هما؟
شارل مالك هو ابن الطبيب حبيب مالك الذي عَمِلَ مع الجيش البريطاني في مصر. أما نجله شارل فأمضى ثلاث سنوات فقط في مصر ثمّ غادر إلى الولايات المتحدة عام 1933 لدراسة الفلسفة في جامعة هارفارد.
دائماً كانت بطرّام تشكّل «بوصلة» لفيليب سالم، سواء كان تلميذًا للطبّ أو ممارسًا مهنته كطبيب واستاذاً في الجامعة الأميركية. وهو، عندما كان طالبًا في جامعات الولايات المتحدة، أو اليوم بعدما غادر لبنان في العام 1987 وعمل هناك وأسس عيادة خاصة تهتم بمرضى السرطان، بقي حريصًا على زيارة بطرام، حتى أنه قام بترميم منزله الوالدي، وحوّله إلى منزل تراثي يُمضي فيه شهراً في السنة عندما يزور لبنان مع عائلته.
وتذكر مهى سمارة في كتابها (فيليب سالم: الثائر والعالم والإنساني) أنه «تقريبًا للمسافة بين مكانَي إقامة سالم وعمله في هيوستن وجذوره في بطرّام، يحتفظ في مركز فيليب سالم لمعالجة السرطان... بمجموعة من الأمور الحميمة والاستذكارات. فعلى طاولته، يحتفظ بحفنة من تراب ضيعته، وغصن زيتون من كرمه، وزجاجة صغيرة من زيت الزيتون، ورسوم لمناظر بيوت لبنانية بريشة فنانين لبنانيين.
مفاهيم الإنتماء للبنان
«من الصعب أن يكون أحد الناس يحب لبنان أكثر من مالك»، يقول سالم. ويضيف: «نحن التقينا في حبّنا للبنان وولائنا له. أنا أقول أن يكون لبنان عربيًا ألف نعم، ولكن أن يذوب في العالم العربي فألف لا». أنا التقي مع مالك حول أبدية وسرمدية إبقاء لبنان حرًا ومستقلاً. لكنّني أؤمن بأنّ لبنان هو عربي من رأسه حتّى أخمص قدميه.
القومية اللبنانية في فكر مالك تقوم على أسس سياسية ودينية، أما القومية اللبنانية في فكر سالم فتقوم على أسس سياسية لا دينية كما كان يوحي البطريرك الماروني الياس الحويك خلال محادثاته في باريس المتعلقة بتأسيس دولة لبنان عام 1920.
الكلام الذي أطلقه البطريرك الحويك في مؤتمر السلام في باريس عام 1919، وقال فيه: «اننا نطالب بكيان وطني على أساس الوطنية السياسية لا الدينية، وهو ما يحدث للمرة الأولى في تاريخ هذا الشرق»، هو تمامًا ما يردّده فيليب سالم، إذ يصرّ على أن تأسيس دولة لبنان الكبير تمّ على أسس وطنية لا دينية، وان القومية اللبنانية تقوم على هذا المفهوم السياسي الوطني لا الديني. وإذا كان الفيلسوف مالك يعتبر ان «لبنان هو بلد العيش المشترك»، فإن سالم يؤكد أن «لبنان هو بلد العيش الواحد» وان لا حلّ طائفيًا لأي مشكلة طائفية في لبنان، مستشهدًا بالبابا يوحنا بولس الثاني الذي أكّد خلال زيارته التاريخية لوطن الأرز، أنّ «لبنان هو وطن الرسالة».
تَباين الرأي في نظرة مالك وسالم إلى العالم العربي أمر واضح. فالعالم العربي ليس ضمن أولويات شارل مالك رغم أنه من أوائل الذين حذّروا من مخاطر إسرائيل على لبنان والعالم العربي.مالك يهتم بلبنان الذي «يجسّد الحضور المسيحي في الشرق». أما «لبنان العربي» فكان يؤمن به مالك بشكل غير جدّي وغير عميق.
فيليب سالم يؤكد أنّ الحضور المسيحي في الشرق مهم. ولكن في النهاية يؤمن بـ»الانصهار المسيحي-الإسلامي، وبدولة المواطنة والدولة المدنية وأنّ لا فرق أو تمييز بين المسيحي والمسلم والدرزي». ويؤمن بكل قوة بفصل الدين عن الدولة.
حقوق الإنسان
«الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» هو ذروة إنجازات الدكتور مالك ورفاقه. ويؤكد سالم أنه لولا شارل مالك (اللبناني) لَما خرجت هذه الوثيقة التاريخية من لدن الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى الحياة. هذه الوثيقة الهامة تمّ الاتفاق على مضمونها نهائيًا عام 1948 في العاصمة الفرنسية باريس.
هذا الإعلان أبصَر النور في نهاية الحرب العالمية الثانية، ويُعتبر المحاولة الأولى التي تبذلها منظمة دولية من أجل «الاعتراف بالحقوق المتساوية والثابتة لجميع أعضاء الأسرة البشرية».
لكن ما كان ينقص هذه «الوثيقة التاريخية» هو «حقّ الإنسان في الصحة». وهذا ما حَدا بالطبيب اللبناني الدكتور فيليب سالم أن يدعو الأمم المتحدة إلى «إعادة النظر في الصحة لجعل الحقّ في الرعاية الصحية الأكثر قدسية بين حقوق الإنسان». ودعا سالم إلى تغيير المادة الثالثة في الإعلان لتصبح على الشكل الآتي: «الحق الأهم والأكثر قدسية بين حقوق الإنسان هو الحقّ في الحياة، لكنه غير ممكن في غياب الحق في الرعاية الصحية، فالحياة رَهن بالصحة».
في كتاب فيليب سالم (المعرفة تقودك إلى الله) الصادر عام 2021، يقدّم غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي الكتاب ويقول: «ليس كتابك هذا موضوعًا أكاديميًا، بل هو إخراج ما في قلبك من إيمان ومعرفة وخبرة حياتية في عالمك، عالم الطبّ. أنتَ تَضعُنا أمام تأملاتٍ رفيعة في الحياة، وصفحات رائعة من السموّ الروحي واللاهوتي، هي في صميم حياتك وخبرتك اليومية. ولذا، هو ليس كتابًا فلسفيًا أو لاهوتيًا، بل شهادة حياة تتضمن الوجهين الفلسفي واللاهوتي».