«زواجُ المُبدعين»... هل ظنّه شوقي بزيع مُختلِفاً؟
«زواجُ المُبدعين»... هل ظنّه شوقي بزيع مُختلِفاً؟
عبد الغني طليس
Tuesday, 10-Jan-2023 06:36
لأنّ تصوّر الجمهور لشخصيات ثقافية وإبداعية وفنية يميل إلى تَنزيههم عن العادة، بل العاديّات الإجتماعية، ورفْعِهم الى مصاف عالية إجمالاً، لذا ترى هذا الجمهور متفاجئاً لدى معرفة حقائق حياة هؤلاء، وأحياناً غير مصدّق!

زواجُ المبدعين هو نفسُه زواج غير المُبدعين على قولة المثَل الشعبي»مِتلك مِتلك يا الإنسان»، وما قد نظنه مختلفاً في زواج اثنين من الفنانين، النجوم وأنصاف النجوم وأرباعهم منَ الجنسين، يتبيّن أنه أحياناً كثيرة عادي، بل أكثر من عادي. ذلك أن البشر عموماً في موضوعة الزواج يتقاسمون الهموم ذاتها والصعاب ذاتها، وطريقة تصرفهم تجاهها، ذاتها أيضاً مع بعض الإختلافات التي تحتّمها طبيعة كل إنسان على حدة، ثم التقاء طبيعتين متباينتين في الحياة، تحت سقف واحد.

 

في كتاب الشاعر شوقي بزيع «زواج المبدعين» الذي لاحقَ فيه تفاصيل حياة شعراء وأدباء وفنانين كبار الزوجية، ودقّق فيها، في ما هو منشور ومعروف عنها، وما هو مستتر من العلاقات في المنزل، حين يعود الإنسان - الفنان إلى غرفته وسريره ومكتبته ومطبخه وأمراضه النفسية والجسدية، فوَصل بزيع الى النتيجة المعروفة سلفاً: الملل وضيق النفَس والمزاج المتعثر في أدنى التفاصيل وأكبرها، وصولاً الى الوصال الروحي الذي نتهشُه اليوميات التافهة التي تتراكم فتصبح مشكلات جديّة، وتقع الأجساد الورديةُ التلهّفِ في الانفضاح الكلّي وتنهار اللحظات والساعات في شِباك الإمتلاك، أي القبض على الآخر متلبّساً بعواطفه وغرائزه، وتفكيك المعاني الخفية التي تعطي الشغف وتحافظ عليه لينقلب المشهد مُضجراً تماماً إلّا في استثناءات يمكن ان تكون موجودة لكن تحتاج رؤيتُها الى مُكَبّر!

 

كل القصص والمواقف التي أوردَها شوقي بزيع عن المبدعين الذين اختار حياتهم ليمدّ قلمَه اليها، تتمحور حول نقطتين: اللهب القدسي في بداية العلاقة، والرماد الذي يعِسُّ في نهايتها أو بعد سنوات، وما بينهما من التقطُّع والتجمّع والتقارُب والتجافُل وإثبات الذات بالقوة الروحية وأحياناً البدنية، والتنكّر لأبسط الوعود السابقة التي أخصبَت وجذبَت وأعدمَت المسافات بين الطرفين، ومهدت الدرب للزواج، إذ ان بدايات المُحبين المبدعين تشبه أغلب بدايات الحب الأخرى عند غيرهم ما عدا بعض المتميّزين في شخصياتهم الذين يمتلكون ثقافة فهم الآخَر مع الحب، في الحياة ببراثنها وحريرها، ويدركون من نقطة انطلاق العلاقة ان المآل في النهاية ليس ناصعاً أو جميلاً كالمَطالِع، ويتكيّفون مع الظروف (إذا قرروا العيش في الزواج) من دون أن يجَرّحوا بالشريك بذهنية الإنتقام أحياناً.

 

لكن هل كان شوقي يعتقد أنه سيأتي بنتيجة أخرى لزواج المبدعين؟ أم أنه انطلق من الفرضية السلبية وهي أن أغلب المبدعين المتزوجين كما عرفَهم لم يكونوا سعداء ببعضهم بعضاً، وأن بعضهم الكبير المعروفة حياته المُمِضّة لن يكتشف هو، ولا غيره، فيها جمالاً غائباً؟

 

لا شكّ في أن شوقي بزيع، خلال كتابته عن مبدعين أجانب بعينهم، كان أكثر راحة في نبش أو إماطة اللثام عن مواقف معينة، وحالات محدّدة وحتى عن أسرار، أكثر مما شَعَرَ حين كان يكتب عن عرب. ومن هنا فإن ما أورَده عن المبدعين العرب كان، في أطراف منهُ، منتشراً بين الناس أحياناً بقوة وأحياناً بخفر، والجديد في نصوصه هو تجميع هذه المواقف في إطار محدد هو الزواج.

 

أمّا المبدعون الغربيون فيمكن بسهولة العثور على إضافات في كتاب بزيع، عمّا يُشاع هنا وهناك عنهم، ولعلّه كباحث جدّي كان يعلم مسبقاً أنه مطَالَبٌ بإكمال صورة ما لفنان مبدع من خلال الزواج، وليس أكثر من علاقة الزواج بإمكانها أن تفعل ذلك.

 

إن غرابة أطوار المبدعين،عموماً، رجالاً ونساءً، وسرعة تخلّصهم من القيود، ورغبتهم في ألّا يكون عليهم حسيب أو رقيب، وحرصهم على حريتهم كأنها هي الحياة نفسها، وإعطاء شرعية لأنفسهم في ارتكاب المعاصي (الأخطاء في الحد الأدنى) ومنع الآخر (في الزواج) من أن يكون عائقاً أمام وجود أي عنصر من هذه العناصر… التي تجعل الآخَر الشريك بروازاً أخرس إن هو وافق عليها، هي من الأمور المستحيلة التي تشدّ بالحياة الزوجية إلى أن توقّع على مقولة «الزواج مؤسسة فاشلة».

 

لكن ينبغي ألّا يُنسى قطعاً أنّ طمعَ أو وهمَ أو حقيقةَ امتلاك الشريك في الزواج هي كغيرها من الأشياء التي نرغب بها، وحين نمتلكها نضجر منها خلال وقت يختلف طوله أو قصَره حسب طبيعة كل واحد منّا. فالرغبة في امتلاك سيارة حديثة سوف يهوي بعد مدّة زمنية إثر اقتنائها، والرغبة في امتلاك قصر ستذوي إثر امتلاك قصر لبضع سنوات مثلاً، وسيصبح القصر والسيارة من المُخلّفات قياساً بالشغف الذي عند صاحبهما في التغيير…

 

والعلاقة بين الرجل والمرأة تدخل إجبارياً في هذا النفق المرير بالزواج، وحتى بشيء كالزواج مثل المساكنة حيث تنفتح الزوايا المغلقة في الأجساد والأنفُس، ويقعد الشوقُ عاطلاً عن العمل.

 

الفن، والشِّعر منهُ، هو سفر دائم في مطلَق دائم، وما نحققه فيه ليس إلّا رفرفة أجنحة تصل ولا تصل... بعكس الزواج الذي هو حبٌ لوقت، والتصاقٌ لوقت، وضجر لوقت... وحتى حب الأهل للأبناء وحب الأبناء للأهل تخترقُه مهازل أحياناً كثيرة تفقده جمالياته...

 

من هنا فإنّ مقارنة شوقي بزيع بين الشّعر والزواج غير متكافئة، فضلاً عن ان المقارنة بين الشّعر والحب ستنتهي بأسبقية الشّعر في البقاء عالماً سحرياً أكثر من بقاء الحب كذلك... فالحب ينتهي غالباً ثم يبدأ لينتهي فيُنتَهَكُ بين بدايات ونهايات متلاحقة...

 

على أن السؤال يطرح نفسه: هل إن كتاباً بعنوان «زواج المبدعين» كان ينبغي أن يكتبه شاعر رصين كشوقي بزيع يخشى على اسمه من التوّهان في قيل وقال من باب الخصوصيات ولوّ المؤلمة، ولا يريد أن تعلَقَ به لوثة تشويه مبدعين أحبّهم وأحبوه... أم كان يلزمُه كاتب يتقصّى الحقائق ويتثبّت منها وينشرها من دون أي اعتبار إلّا قول الحقيقة العارية؟ الجواب طبعاً مُختلِفٌ بين قارئ وآخر.

 

لُغة بزيع الشفافة التي تسمّي ولا تجرح، وإذا جرحَت فلا تسيل الدماء، كانت تنويعاً بين قول الحقائق عن حياة المبدعين الزوجية، وبين علْم النفس الذي لهُ رأي في كل ما رُوي. واستخدام شوقي مراجع علمية ونفسية وأدبية أغنى كتابه البحثي والنّقدي الثاني الذي يصدر هذا العام في تعويض مكتوم عن الشّعر الذي يستعصي أحياناً فنملأ الوقت بما هو قُربَ الشِّعر!

 

«التعنيف النفسي والجسدي» للزوجات وأحياناً الأزواج سنجده عند المبدعين في العالم فنوناً وجنوناً.

theme::common.loader_icon