بين المذبحة والإرساليات... نظام جديد
بين المذبحة والإرساليات... نظام جديد
اخبار مباشرة
شربل بو مارون

رئيس مركز المشرق للدراسات والأبحاث

Saturday, 24-Dec-2022 06:53

يوم السابع عشر من كانون الأول 2022، وافق البابا فرنسيس على اعلان الطوباويين الإخوة المسابكيّين الثلاثة الشهداء بين القدّيسين، من دون حاجة إلى أعجوبة، لكونهم شهداء الإيمان.

خبر مرّ كثيرًا هذه الأيام، قديسون موارنة من دمشق، قديسون علمانيون… من هم هؤلاء وما علاقتهم بالنظام الجديد؟

 

في التاسع والعشرين من أيّار 1860، بدأت سلسلة أحداث دمويّة أصبح هدفها معروفًا مع الوقت، وهو تغيير ديموغرافية بلاد الشام وجبل لبنان وهويتهما، وكانت الأساس والممهد لعمليات التطهير العرقي والإبادات الجماعية التي نفّذها عبد الحميد الثاني سلطان العثمانيين في حق الأقليات غير التركية الموجودة على أرض السلطنة، فيما بات يُعرف لاحقًا بالمجازر الحميديّة، من مجازر بدرخان في نينوى، مرورًا بمجازر ديار بكر وطور عبدين، وصولًا إلى الإبادة الأرمنيّة ومجاعة جبل لبنان، علمًا أنّ غالبية هذه المجازر نُفّذت على أيدي «الكتائب الحميديّة»، وهي كتائب شبه نظامية أسسها السلطان عبد الحميد من أبناء العشائر الكرديّة، بداية لمحاربة الرّوس، لكنه ما لبث ان استخدمها للتطهير العرقي والإبادات.

 

بالعودة إلى مجازر 1860، التي بدأت بإيعاز عثماني لـ«تنظيف» جبل لبنان الجنوبي من الموارنة، بدأت هذه الأحداث في الشوف، وما لبثت أن امتدّت إلى زحلة وجزّين والشام، وكانت محصّلة هذه المجازر استنادًا إلى وثائق الإرساليات الأجنبية ومؤرخين كثيرين منهم المؤرخ البريطاني جيمس لويس فارلي، أنّ بين 7,000 و 8,000 قتلوا ورُمِّلت 5,000 امرأة ويُتِّم 16,000 طفلاً، وأنّ الأضرار بلغت نحو 326 قرية و 560 كنيسة و 28 مدرسة، و 42 ديراً و 9 مؤسسات دينية، وقد حُدّدت الخسائر الماديّة بنحو4 ملايين جنيه استرليني ذهباً، إلى جانب اعتناق قرى بكاملها الإسلام في الجليل الأعلى وصيدا وصور، هربًا من الإبادة.

 

عندما وصلت المذابح إلى دمشق، كان فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل مسابكي من كبار القوم في الشام، ويوم ثار المسلمون على المسيحيين، لجأ المسابكيون، مع عدد كبير من المسيحيين، إلى دير الرهبان الفرنسيسكان في باب توما في دمشق، نتيجة إضرام النار في حيّهم.

 

وبعد منتصف الليل دخل الدير عنوة، جمهور من الرعاع، مدججين بالسلاح. وكانوا يبحثون عن فرنسيس مسابكي. فدنا فرنسيس منهم، غير هيّاب، قائلاً لهم: «انا فرنسيس مسابكي ماذا تطلبون؟»، فأجابوه: «جئنا ننقذك وذويك بشرط ان تجحدوا الدين المسيحي وتعتنقوا الإسلام وإلّا فإنكم تهلكون جميعكم». فأجابهم فرنسيس: «اننا لمسيحيين وعلى دين المسيح نموت. اننا نحن معشر المسيحيين لا نخاف الذين يقتلون الجسد، كما قال الربّ يسوع».

 

ثم التفت إلى أخويه وقال لهما: «تشجعا واثبتا في الإيمان، لأنّ اكليل الظفر معدّ في السماء لمن يثبت إلى المنتهى». فأعلنا، فورًا، إيمانهما بالرب يسوع بهذه الكلمات: «اننا مسيحيون ونريد ان نحيا ونموت مسيحيين».

 

فانهال المضطهدون، إذ ذاك عليهم، بالضرب بعصيهم وخناجرهم وفؤوسهم، فاستشهدوا. وكان ذلك في اليوم العاشر من تموز 1860.

 

نتيجة هذه المجازر، تدخّلت القوى العُظمى ووُقّعت اتفاقيات التنظيم القانوني لجبل لبنان، وتمّ إنشاء متصرّفية جبل لبنان وكان الحاكم الأوّل عليها أرمنيًّا...

 

هذا على الصعيد السياسي، امّا على الصّعيد الثقافي الحضاري، فقد تحوّلت نقمة المجازر نعمة ثقافيّة، فتأسّست منارتان جامعيّتان إرساليّتان، واحدة بروتستنتيّة وأخرى كاثوليكيّة، فكان القسّ دانيال بليسّ، وكانت الكليّة البروتستنتيّة السّورية (لاحقًا الجامعة الأميركيّة في بيروت) وكان خريجوها من ألمع النّاس في كافة الميادين ومن مختلف الجنسيّات، فيها تناظر شارل مالك وأنطون سعادة، وفيها درس شوقي أفندي، أحد أبرز وجوه الديانة البهائية… وكانت الجامعة اليسوعيّة، وكان الجازويتيون روّاد الحقبة الذهبيّة للبنان، فيما بات يُعرف لاحقًا بحقبة المارونيّة السياسيّة.

 

واليوم، ونحن على مشارف نهاية العام 2022، ومع كلّ المتغيّرات في المنطقة، والمسألة الشرقيّة التي تُطرح مجددًا، حيث استبدل السلطان الجديد وريث العثمانيين (كما يحلو له أن يسمّي نفسه) رجب الطيب إردوغان مرعش بعفرين، وبات يُبيد الأكراد هذه المرّة، ويفرض حصارًا بالوكالة على أرتساخ الأرمنيّة، في محاولة منه لاستنساخ مجاعة جبل لبنان.

 

هل سنشهد إعادة رسم للخرائط، لا سيما مع الاضطرابات التي تطاول غالبية دول المنطقة؟ هل سنشهد «حلف بغداد» جديدًا، في اعتبار انّ مؤتمر بغداد عُقد في الأردن؟ هل سيتوحّد الأكراد والأرمن والسريان لأجل قضيّة مشتركة؟

 

فتنة أرادها العثمانيون لتغيير الحضارة، أنبتت روّادًا في الأرض وقدّيسين للسماء، وأنتجت نظامًا قال فيه فؤاد افرام البستاني في مذكرته «مسألة لبنان». متى وكيف سينتهي هذا المطهر الذي نعيشه في لبنان؟ مجرى التاريخ في القرن التاسع عشر يدلّنا إلى ذلك، ثم إنّه المنفذ الوحيد الممكن:

 

تدويل المسألة اللبنانية والعودة إلى صيغة لبنان القديم (المتصرفيّة): استقلال وحياد تضمنه قوى منظمة الأمم المتحدة... كلام يتطابق مع مطالب البطريركيّة المارونيّة وكلام البطريرك الراعي.

theme::common.loader_icon