ليس من السهل عليّ أن اتكلم عن شارل مالك، لأنّه يحتل مكانة كبيرة في قلبي ومكانة اكبر في عقلي. كلانا ولدنا وعشنا في قرية صغيرة اسمها بطرام. نحن أقرباء من جهة والدتي التي رافقته في أيام الصغر. شاركته الحياة الأكاديمية في الجامعة الأميركية في بيروت، كما شاركته كل حياتنا الحب الكبير للبنان.
ولكنني سأحاول تحديد مكانة هذا الرجل في الفكر وفي التاريخ في خمس نقاط.
• النقطة الأولى. إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. بالطبع كان هذا إنجازه الرئيسي. إنّ العالم يعرفه بصفته كمقرّر (rapporteur) للجنة التي طلب منها صياغة الإعلان. ولكن العالم لم يعرف أنّ شارل مالك كان أكثر من مجرد مقرّر؛ لقد كان في الحقيقة القائد الفعلي لتلك اللجنة، والتي كانت تضمّ خمسة أعضاء. فلولا إصرار مالك، ومثابرته، ونَفَسه الطويل، وقوة الإقناع التي كان يمتلكها، لما رأت الوثيقة النور. لم يكن واحداً من الذين صاغوا الإعلان بل كان أب الإعلان.
وبالرغم من أنّ هذا الإعلان العالمي كان أحد الإنجازات الرئيسية للأمم المتحدة، يؤسفني أن أقول إنّ منظمة الأمم المتحدة ذاتها لم تحترمه. إذ انّ الوثيقة لم تخضع للمراجعة والتدقيق والتحديث منذ صدورها في كانون الأول من سنة 1948. ونحن في العلم تعلّمنا انّ كل ما لا يخضع للمراجعة والتحديث يخسر القدرة على الحياة ويجمد في التاريخ. وبالإضافة إلى ذلك، فالأمم المتحدة لم تعمل بجدّ وصرامة ومسؤولية لتطبيق شرعة حقوق الإنسان. فلذا، معظم دول العالم يتجاهل اليوم هذه الشرعة ولا يحترمها. ومن المفارقة المحزنة، أنّ أكثر دولة تتجاهل هذه الحقوق وتدوسها هي دولة لبنان، وطن شارل مالك.
• النقطة الثانية. تركيز شارل مالك على حرّية الإنسان الفرد. فالبشرية يجب أن تُمجّد الله، وكذلك يجب أن تمجّد الإنسان الفرد وتدعم كرامته. ألم يخلق الله الإنسان على مثاله؟ فالدولة هي أداة لخدمة الفرد وليس العكس. إنّ الحرية هي البوابة إلى الحضارة. والإنسان الفرد هو من يصنع الحضارة. لقد شكّلت هذه الرؤية الفلسفية مَعلَماً من معالم الفكر السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، كما شكّلت النقيض لفلسفة الأنظمة الشيوعية والشمولية، حيث يسحق الإنسان الفرد في سبيل إعلاء شأن النظام السياسي.
• النقطة الثالثة. التزامه العميق بدور الأخلاق والقيم الإنسانية في صنع السياسات. فكثيراً ما تبنّى السياسات على الاعتبارات الأمنية والاقتصادية فقط. كان في رأيه، انّ صنع السياسة يجب أن يأخذ بالاعتبار أيضاً أيديولوجية تلتزم بالحق والأخلاق والعدالة. فالقوة العسكرية وحدها لا تكفي للدفاع عن الحرية. إنّ الدفاع عن الحرية يحتاج إلى قوة العدالة.
• النقطة الرابعة. تميز شارل مالك عن الكثيرين من المفكرين والسياسيين بإيمانه العميق والراسخ بالله. كان إيمانه المسيحي يشكّل العمود الفقري لفلسفته. لقد أحب المسيح، فكان يسوع المسيح محور حياته. ويبقى كتابه «يسوع المسيح والأزمة» كنزاً كبيراً في الفكر المسيحي. ولد مالك وعاش في بيت بُني على الرسالة المسيحية. إثنان من أشقائه، الاب جبرائيل والأب رمزي، كانا من علماء اللاهوت الكبار. المعرفة والفلسفة والسياسة لم تهزّ إيمانه بل رسّخته عمقاً.
• النقطة الخامسة. لقد آمن مالك بلبنان كما آمن بالله. ونحن اللبنانيين نحبه على حبه اللا حدود له للبنان. وأنا شخصياً لا أعرف أحداً دافع عن القضية اللبنانية بضراوة أكثر منه. كما اني لا أعرف أحداً غيره كانت هويته السياسية، حرية وسيادة واستقلال لبنان. ولكن لبنانه يواجه اليوم تهديداً وجودياً ليس فقط لهويته السياسية، بل إلى ما هو أهم، وهو هويته الحضارية. لبنان هو الحرية فإن زال يُسدَل الستار على الحرية في الشرق كله.
ليكن التاريخ شاهداً علينا. سوف لن نسمح لهم بدفنه. سنقيمه من مماته.
أود أن اتقدّم بالشكر إلى اللجنة التي نظّمت هذا المؤتمر ولدعوتي للمشاركة فيه.
* أُلقيت هذه الكلمة باللغة الإنكليزية في ندوة عن شارل مالك عُقدت في الجامعة الكاثوليكيّة- سيدني، استراليا يوم الاثنين الواقع في 12 كانون الأول، وذلك لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان.