"بورخيس" شاعر لمّاحٌ بخطّ باذخ للقصيدة
"بورخيس" شاعر لمّاحٌ بخطّ باذخ للقصيدة
نسرين بلوط
Friday, 09-Dec-2022 06:10

من النادر أن نرى كاتباً يتأوّه شعراً، ويحلم بشكل زرادتشي انسكابي بمنبر النور الذي يسطّر الملاحم العاطفيّة والتاريخيّة في اشراقاتٍ روحيّة. ربّما فقد تدريجّياً حاسّة البصر، ولكنّه أصرّ على الاندماج في طيّات القصائد حدّ الالتئام الروحي، ويجعل من دستور الشعر مسيّراً له من وراء المتاريس الالتوائيّة لمسيرة الابداع، لأنّه التمس الخطّ الصحيح دون أن يحول فقدان رؤيته بينه وبين سيطرته على رؤاه الخاصّة، إنّه الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس.

 

بورخيس كان وليد بذرة مخالفة للطبيعة، فقد ثار وتمرّد وتأرجح في ظفرٍ مؤكّد لتزاوج الحروف وتماهيها، في لوحةٍ مشهديّة لا تتكرّر على مرّ العصور.

 

كان تخمينه المبكر لنظريّة المعاينات الفنيّة في الشعر قد ساعده كثيراً في استخراج قصائد نوعيّة تنتسب إلى فلسفة الرواقيّين الذين يسيرون بدعة في تحليلاتهم وارتوائهم من عالم الكينونة وابتعادهم عن الحسّ واللمس وكلّ ما يتعلّق بالأمور الدانية الفانية.

 

في قصيدته «البحر» يقول بورخيس: «قبل أن ينسج حلمنا (أو رعبنا) الانسانيّ/ الأساطيرَ، حكاياتٍ عن نشأة الكون، والحبّ/ قبل أن يُسكَّ الزمانُ عنصره في أيّام/ كان البحر، البحر الدائم، موجوداً: كان./ من هو البحر؟ من هو ذلك الكائن العنيف/ العنيف والعتيق، الذي يقرضُ أعمدة/ الأرض، وهو، في الوقت نفسه، أكثرُ من محيط/ وهاويةٌ، ومجدٌ، وصدفةٌ، وريح؟/ من ينظر الى البحر، يراهُ كلّ مرةٍ/ لأوّل مرة. بالعجب الذي نستلّهُ من/ الأشياء الأولى، من الأماسي/ الجميلة، من القمر، من وثبة النيران/ من هو البحر، ومن أنا؟ هذا ما/ يفصحُ عنه اليومُ التالي لعذابي الأخير». هذا التغنّي الانطوائي بالبحر الذي يمثّل الحياة بتسكّعها الإرادي واللاإرادي في نطاق الأقدار، وبهيامها داخل الأنساق والأرزاق والأسرار والحكايا والأخبار، يمثّل له صفعة الريح التي تدوّي بقبضتها مثل مطرقة تهوي على رقاب الذكريات التي لا تمثّل له بهيأتها اللمّاحة سوى بعض الفصول وبعض القبول.

 

يمضي بورخيس في تشبيه الحنين بالنيران التي تشب قبل الاحتضار، وقبل أن تصبح مبتورة الإرادة وتنقلب إلى رمادٍ باهت، ثمّ يستعير من البحر كلّ كيانه ليماثله بروحه التي تشرف على التقوقع البالغ التجرّد، وقد صنّفت قصائده بضمّها لجميع الميثولوجيّات الخارقة والنادرة والتي تجهر بإدانتها وببراءتها في نفس الوقت.

 

وقد تأثّر بورخيس بالصور الأليغوريّة التي هي في الأصل لفظة يونانيّة وتتسّم بتحوير الكلام أي تتوكّأ طابعاً رمزيّاً ايحائيّاً يشير إلى معنى مغايرٍ لما كتب بوضوح. وقد تجشّم في قصائده عناء هذه السرياليّة التي تحمل على عاتقها دلالاتٍ جازمة تصيب عين المعنى، ليؤسّس خيمياء تعبيريّة تتعامل مع جوهر الكينونات وليس هامشها وظاهرها، وفي قصيدة «تاريخ الليل» يقول:» أريجُ القهوة والجرائد/ الأحدُ ورتابته. هذا الصباح/ على الصفحة اللامتفحّصة، ذاك العمود/ من الأشعار الأليغوريّة/ لثمّة زميل سعيد. يضطجع الرجل العجوز/ على ظهره، شاحباً، أبيضَ حتى/ في غرفته المحتشمة، غرفة الرجل الفقير/ انه يتطلع، دونما حاجةٍ، الى وجهه/ في المرآة المتعبة. يفكرُ، دونما دهشةٍ الآن/ ذاك الوجهُ، أنا» يدٌ واحدة/ تلمسُ، متعثّرة، اللحية الكثّة، الفم المدحور/ النهاية لم تعد بعيدة. صوته يُعلن:/ أنا فانٍ تقريباً. لكن شعري/ يرصدُ الحياة ومجدها. لقد كنتُ والت ويتمان». هذا التأثّر الصريح بوالت ويتمان هو انتماءٌ لاشعوريٌّ للازدواجيّة الفكريّة في الكتابة، فقد كان ينعتق من فكرة التصوير ليتّجه إلى مصبّ التحوير للنواحي المختلفة في سبيل ترسيخ فكرة الحريّة، وقد برع فيها ويتمان حيث هاجم الفاشيّة والديكتاتوريّة، ربّما أراد بورخيس أن ينزع عنه غلالة أفكاره ويتخطّى النماذج الروتينيّة في الخيال ليتقمّص خيال غيره ليستقي من منجمه الهائل والعظيم أفكاراً وأسراراً لا تخطر على بال.

 

تعرّض بورخيس للكثير من الانتقادات في حياته وتلوّى عنق قصيدته من الموبقات والانتقادات الجارحة بحقّها، ولكنّه كافح في استماتة الشاعر الحقيقي ليجابه العمى الأدبي والنفسي ويتّجه إلى نسج المصائر والبصائر. ولا عجب فهو القائل:» على مرّ العصور/ شيّد الرجالُ الليل/ في البدء كان العمى والنوم/ وأشواكٌ تمزق القدمَ الحافية/ والخوف من الذئاب/ لن يتسنى لنا أبداً أن نعرف/ من صاغ الكلمة لمرحلة الظلّ/ التي تفصلُ بين غسقين/ لن نعرف أبداً في أيّ قرن».

 

وهكذا مارس بورخيس الجلاء النفسي والذاتي للشعر، في بحثٍ متحرّق للحقيقة دون أن يمارس لعبة الاحتراس، فاستحقّ عن جدارة لقب «شاعر».

theme::common.loader_icon