رئاسة الجمهورية: نحو النموذج العراقي
رئاسة الجمهورية: نحو النموذج العراقي
طوني عيسى
Wednesday, 07-Dec-2022 06:54

إذا درجت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة على عقد جلساتها، بأعذارٍ يمكن استحضارها دائماً، ومرَّرت القرارات وأصدرت المراسيم من دون الحاجة إلى توقيع رئيس الجمهورية، ثم أنطلقت أعمال التشريع والرقابة في المجلس النيابي، فسيعني ذلك أنّ موقع الرئاسة في لبنان بات شكلياً لا أكثر، ويمكن التخلّي عنه عملياً.

قبل اتفاق الطائف، كان يُقال إنّ الصلاحيات التي يملكها رئيس الجمهورية الماروني تجعله أقرب إلى الملك، في نظام ملكي مطلق. ولكن، في العام 1989، قام الطائف بأخذ الرئاسة من هذا الموقع المتطرّف إلى موقع معاكس تماماً.

 

في نظام 1943، أُعطي الموقع أكثر من اللازم. لكن الطائف لم يأخذ منه «فائض الصلاحيات» بل سلبه حتى الصلاحيات الأساسية حتى كاد يعطل عمله. وعملياً، لم يقم الطائف باستفزاز المسيحيين بانتزاع موقع الرئاسة منهم، بل اعتمد طريقاً «ناعماً» قضى بإبقاء الموقع لهم، لكنه أفرغه من الصلاحيات حتى صار عند نقطة وسطى بين الفعلي والتشريفي.

 

ويمكن إجراء مقارنة في هذا الشأن بين موقعي رئاسة الجمهورية في لبنان والعراق. فبين الدولتين كثير من علامات التشابه في طبيعة الأزمات. وللتذكير، على مدى عام كامل، تخبَّط العراق في أزمة شغور رئاسي وحكومة تصريف أعمال، إلى أن تحقق الانفراج في تشرين الأول الفائت.

 

ومن هذه العلامات، بعد مرحلة الرئيس صدّام حسين، تُوزُّع المواقع الدستورية الثلاثة الأولى على المجموعات المذهبية والعرقية: رئاسة الحكومة للشيعة (الأكثر عدداً)، رئاسة المجلس النيابي للسنّة (الطائفة الثانية عددياً) ورئاسة الجمهورية للأكراد (المجموعة الثالثة عددياً).

 

في لبنان أيضاً، منطق التوزيع الطائفي متبع منذ الاستقلال: رئاسة الجمهورية للموارنة (وهم يمثّلون المسيحيين عموماً) رئاسة المجلس للشيعة ورئاسة الحكومة للسنّة. ووفق لوائح الانتخابات النيابية الأخيرة، تتساوى الطائفتان المسلّمتان عددياً، مع أرجحية طفيفة للسنّة.

 

في العراق، السلطة الأولى اليوم تتمركز في يد رئيس الوزراء، يليه رئيس المجلس النيابي، فرئيس الجمهورية الذي تنظم المادة 73 من الدستور صلاحياته كالآتي:

اولاً: ـ إصدار العفو الخاص بتوصيةٍ من رئيس مجلس الوزراء، باستثناء ما يتعلق بالحق الخاص، والمحكومين بارتكاب الجرائم الدولية والإرهاب والفساد المالي والإداري.

 

ثانياً: المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بعد موافقة مجلس النواب، وتُعدّ مصادقاً عليها بعد مضي خمسة عشر يوماً من تاريخ تسلّمها.

 

ثالثاً: يصادق ويصدر القوانين التي يسنُّها مجلس النواب، وتعدُّ مصادقاً عليها بعد مضي خمسة عشر يوماً من تاريخ تسلّمها.

 

رابعاً: دعوة مجلس النواب المنتخب للانعقاد خلال مدةٍ لا تتجاوز خمسة عشر يوماً من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات، وفي الحالات الأخرى المنصوص عليها في الدستور.

 

خامساً: منح الاوسمة والنياشين بتوصيةٍ من رئيس مجلس الوزراء، وفقاً للقانون.

 

سادساً: قبول السفراء.

سابعاً: إصدار المراسيم الجمهورية.

ثامناً: المصادقة على أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المختصة.

 

تاسعاً: يقوم بمهمة القيادة العليا للقوات المسلحة للأغراض التشريفية والاحتفالية.

 

صلاحيات الرئيس العراقي هذه ليست بعيدة كثيراً عن الصلاحيات التي بقيت للرئيس اللبناني بعد الطائف، مع الاعتراف بأنّ النسخة اللبنانية ما زالت تتمتع بمقدار أعلى من الصلاحيات التنفيذية، أبرزها إصدار مراسيم تشكيل الحكومة. لكن أي وزير في الحكومة اللبنانية يمتلك القدرة على ممارسة «الفيتو» أكثر من رئيس الجمهورية.

 

إلّا أنّ الرئيس اللبناني ما زال يتفوَّق على نظيره العراقي في ما يتمتع به من سلطة تنفيذية، إضافة إلى أنّه قادر على أن يتلقّى دعماً سياسياً أوسع من قوى فاعلة في المجلس النيابي والحكومة، لأنّ المسيحيين ما زالوا حتى اليوم يتمتعون بامتياز المناصفة فيهما، وفي مواقع أساسية في الدولة.

 

بين التنفيذي والتشريفي، الرئيس اللبناني أقرب إلى التنفيذ، فيما الرئيس العراقي أقرب إلى التشريف.

 

لكن الصلاحيات ليست مجرد نصوص، بل هي قدرة على التنفيذ أيضاً. ولا قيمة لنصوص واردة في الطائف، أو في الدستور، إذا لم تسمح الظروف بتنفيذها. وهناك الكثير من بنود الطائف ما زالت تنتظر إلى أجل غير مسمّى إما التنفيذ الكلّي أو الجزئي وإما تصحيح الخلل في التنفيذ. وقد تمرُّ عقود أخرى من الانتظار.

 

في المراحل الأولى بعد الطائف، كان الراعي السوري يدير البلد من خلال «ترويكا» رئاسية يوزّع الصلاحيات في داخلها وفقاً لمقتضيات اللعبة آنذاك. ولكن، في عهد الرئيس ميشال عون، ونتيجة تحالفه المتماسك مع «حزب الله»، تفكَّكت «الترويكا» وظهَر رئيس الجمهورية الماروني أقوى مما هو «في النص الدستوري»، وكذلك رئيس المجلس النيابي الشيعي، فيما ظهر رئيس الحكومة السنّي أكثر ضعفاً.

 

أي، تبيَّن أنّ معيار القوة السياسية هو الذي يحدّد معيار القوة الدستورية في لبنان. واليوم، مع انتهاء ولاية عون ووضعية الارتباك في علاقة «التيار الوطني الحر» و»حزب الله»، يبدو رئيس الحكومة أقوى مما يعطيه الدستور، وهو ربما يمارس صلاحيات أكبر مما يمنحه النص الدستوري، فيما رئاسة الجمورية تعيش واقع الفراغ.

 

بناءً على ذلك، وفي ظلّ تشرذم القوى المسيحية سياسياً حول ملف الرئاسة ومبدأ انعقاد مجلس الوزراء والتشريع والرقابة في المجلس النيابي، فإنّ موقع الرئاسة الذي لطالما تمسَّك به المسيحيون، باعتباره رأس الدولة المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط والعالم العربي، بات مرشَّحاً ليصبح موقعاً تشريفياً بالكامل على غرار موقع العرش البريطاني.

 

فالتراجع في صلاحيات الرئاسة كان على الدوام ثابتاً ونهائياً، وسيبقى كذلك. وفي المقابل، يتسع هامش الصلاحيات التنفيذية في المواقع الأخرى التي سيدور نزاع في ما بينها على الصلاحيات الموروثة والمكتسبة.

theme::common.loader_icon