مُخطىء من يعتقد أنّ ملف لبنان ساكن حاضراً على طاولة القمة الفرنسية - الاميركية بحجم مجموعة الازمات البينية، الاقليمية والدولية المطروحة على البلدين. فانهماكهما بمعالجة أزمات أوكرانيا والتباين القائم حول شكل ونوع العلاقة مع الصين وفي الشرق الاوسط وما بين واشنطن والعواصم الاوروبية وتداعيات أزمتي الطاقة والمناخ سيحجم طموحاتهما ويضع حداً للمبالغة. ولكن ان يتوقف الرئيسان بايدن وماكرون في ختام القمة عند ملفي الترسيم البحري وانتخاب رئيس جديد للجمهورية فإنّ ذلك يُعد إنجازاً. فلماذا وكيف؟
للمرة الاولى قد لا يكون الرهان كبيرا وشاملا لدى معظم القيادات اللبنانية على القمة الاميركية - الفرنسية التي جمعت الرئيسين جو بايدن وايمانويل ماكرون أمس الأول في واشنطن، فقد علّمتهما التجارب ان مثل هذه الرهانات في ظل تعقيدات الداخل ان كانت انعكاساً لموازين الخارج، دونها حسابات اقليمية ودولية. وقد لا يكون منطقياً البناء عليها توصّلاً الى اي اتفاق يمكن ان يشكل مبادرة دولية توفر مخارج وحلول لمجموعة الازمات التي يعانيها لبنان. وإن كان الاستحقاق الرئاسي ابرزها - وإن لم يكن اشد خطورة من حجم الازمات المالية الاقتصادية التي تعانيها البلاد - ولكنه يشكل بوابة إجبارية لتكون الخطوة الاولى التي لا بد منها على الطريق الطويل المؤدية الى التعافي المالي والاقتصادي عدا عن اعادة انتظام العلاقات بين المؤسسات الدستورية بعد اكتمال عقدها.
فالبلاد التي دخلت منذ شهر مرحلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها، تعاني مجموعة من الأزمات الخانقة والمتناسلة الى درجة رفعت نسبة التعقيدات الى الحدود القصوى بطريقة يصعب فصلها بعضها عن بعض وتفكيكها. فإن وجدت دولة تعاني ازمة مالية أو امنية او سياسية، فلا توجد دولة تعاني مجموعة هذه الأزمات كالتي يعيشها لبنان، وهي حال وضعته على جدول اهتمامات الدول بنسَب مختلفة إلى درجة بات رهان اللبنانيين على البعض منها مقبولا، بعد ان ثبت لديه فشل المنظومة السياسية في مواجهة اي منها او حلها بالطريقة التي تضمن تفكيكها او اعادة برمجتها بطريقة تسهل مواجهة أي منها بالطريقة التي تضمن حلاً نهائياً ومُستداماً.
وعليه، وبالاستناد إلى هذه الصورة الفسيفسائية، فقد رصدت المراجع السياسية والديبلوماسية الصديقة للبنان هذه الصورة، وهي تسعى بجد الى البحث عن مخارج وفق سلّم أولويات مبرمجة، مخافة تطورها الى درجة تمسّ أمن دول الجوار التي تغرق في بحور الدم أصلاً، بل الى ابعد منها وتحديدا الى مجموعة دول البحر المتوسط وأوروبا خصوصا عدا عن تلك التي ارتبط اسمها بأزمة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر والممنوعات، والتي تتجاوز تردداتها لتتحول عابرة للدول والقارات.
وانطلاقاً من هذه الوقائع التي لا يرقى إليها اي شك، كبر الرهان على اي حراك دولي او اقليمي، فالعجز الداخلي المتمادي، دفعَ الى النظر إن كان ممكنا ولادة مبادرة عربية في ظل الشلل الذي أصاب الجامعة العربية منذ اكثر من عقدين من الزمن بعد دخول بعض بلدانها مدار ما سمّي «الربيع العربي»، ولما فقد هذا المولود، فقد توجهت الانظار الى المجموعات الاقليمية كتلك التي قادت اليها القرارات السعودية الاخيرة بمقاطعة المنتجات الزراعية اللبنانية واستدعت تدخّل مجموعة من دول مجلس التعاون الخليجي التي تعاطفت وتضامنت مع الرياض بمبادرة كويتية أنجزت نصف الطريق الى اعادة إحياء العلاقات الطبيعية بين لبنان وهذه الدول.
ولذلك، فقد بات الحل المتكامل رهناً بتنفيذ اللبنانيين الخطوات التي تعهدوا بها. فبعض ما كان مطلوبا من أجل بلوغ المراحل النهائية لم يتحقق. وليس خافيا على أحد ان اللبنانيين لم ينجحوا بعد - على رغم من النيات الحسنة الموجودة لدى البعض منهم بتنفيذ ما تعهّدوا به في ظل مجموعة الأزمات الحكومية والسياسية والإقتصادية الكبرى، والتي لم تسمح سوى بتنفيذ القليل منها. وقد ترجمتها خطوات متواضعة أمنية واقتصادية لم تكتمل فصولها بعد. وكذلك، فإن الحل ما زال ينتظر التغيير المطلوب في مواقف بعض القوى التي تجاوزت خطواتها مساحة الاراضي اللبنانية الى ربط الساحة الداخلية مجددا بالساحات العربية المتفجرة والخليجية تحديدا. وهو أمر نَسبته الأحداث الى «حزب الله» المطالب ايضا بوقف الحملات الاعلامية التي تستهدف بعضها، ووقف كل اشكال التدخل في شؤونها الداخلية من سوريا والعراق الى اليمن والبحرين عدا عن الشبكات التي اتهم بتشكيلها في الكويت والإمارات العربية المتحدة.
عند هذه المحطات الفارغة من اي جديد، توجهت الأنظار الى التحرك الثلاثي الاميركي ـ السعودي - الفرنسي بعدما قاد سفراء البلدان الثلاثة اكثر من مبادرة مشتركة استهلّت بالصندوق المشترك للشؤون الإنسانية، وتلك المتصلة بأزمة الطاقة والاستشفاء واعادة بناء ما دمّره تفجير مرفأ بيروت ومواجهة جائحة كورونا. ولم يقف الرهان على هذا الحراك عند هذه المحطات، الى ان عبّرت باريس عن استعداداتها لقيادة حراك سياسي كبير بدأ باللقاءات التي عقدها ماكرون على هامش قمتي بالي وبانكوك الشهر الماضي ولقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قبل ان تقوده هذه الحركة الى واشنطن لعقد القمة مع نظيره الأميركي أمس الاول مع المسؤولين الكبار على اكثر من مستوى.
وعليه، فقد توقفت المراجع الديبلوماسية امام ما تسرّب من هذه القمة من معلومات ـ في انتظار الأكثر دقة منها ـ فتحدثت عن الالتفاتة التي خَص بها الرئيسان لبنان من بوابتي الإشادة باتفاق الترسيم البحري وما قام به البلدان من جهد لإتمامه، وضرورة حَض اللبنانيين على انتخاب رئيس الجمهورية. وقالت إن هذين الموضوعين عَبّرا عن اهتمام مزدوج بالخطوات السياسية بعد الإقتصادية منها. فرؤيتهما الموحدة لِما أنجزه اتفاق الترسيم من احتمال تحسين الوضع الاقتصادي للدولة اللبنانية وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، فإنها لا تكفي ما لم يقدم اللبنانيون على انتخاب رئيس لجمهوريتهم لتنطلق ورشة الاصلاحات المطلوبة على اكثر من مستوى في ظل اكتمال عقد المؤسسات الدستورية. فمن دونها سيستمر الشلل في الدولة ومؤسساتها وتعجز عن مواكبة الاتفاقيات والتفاهمات التي بوشِر بها سواء مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي وصولاً الى مجموعة الدول والمؤسسات المانحة التي تنتظر هذه الانجازات المفقودة الى حين ترجمتها.
على كل حال، وفي انتظار التثبّت ممّا أدت اليه القمة الأخيرة، تجدر الإشارة الى ان التوافق على النظرة الى لبنان بعينين اميركية وفرنسية لا يكفي، وان هناك عيوناً وعقولاً أخرى على يمينهما وشمالهما يجب ان تقول كلمتها. وان ثبت انّ الخلافات بين ماكرون وبايدن ما زالت قائمة في بعض الملفات الدولية فإنّ ذلك لن يسهل إمرار الخطوات المسهلة للحل في لبنان فأيّ نفور أميركي ـ إيراني وفرنسي تظهر في شأن ما يجري في إيران يتساوى في نتائجه السلبية مع اي خلاف إيراني - سعودي وهي امور كافية ليبقى القديم على قدمه في لبنان، ومعه استمرار خلو سدة الرئاسة لوقت أطول ومزيد من الاهتراء المالي والنقدي والاداري الى آخر المعزوفة السلبية ما لم يُلملم اللبنانيون أطرافهم لتحقيق أي انجاز يسجّل على لائحة عجائب الدنيا الإضافية.