"فرناندو بيسوا" شاعر وَثب من سرير النزع الوجداني
"فرناندو بيسوا" شاعر وَثب من سرير النزع الوجداني
نسرين بلوط
Saturday, 03-Dec-2022 06:37

لعلّ أبرز ما يميّز الشاعر الساعي للحقيقة هو أنّه يعيش في مدارات الوهم، حتّى تضمحلّ صور اللقاء الحتمي بين الواقع والخيال في دائرة عالمه الخاص، فتتفكّك قواه الذهنيّة المتماسكة وتعكس هذا التوهان والهذيان في مسامات القصيدة، فيكون قمّة باسقة بين بواسق الهامات العالية في فلسفة الوجدان، التي تبشّر بِفتحٍ من الفتوحات الشعوريّة الهامّة وتغرّد في سماء الماهدين لدرب الخلاص من العذاب الضمنيّ الذي يمرّ به الكاتب في برزخ العذاب بين ولادة الكلمات وما بعد البعث من مشقّات الرحلة.

وقد نَلمح في كتابات الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا هذا الصراع الذي يتمدّد على سرير النزع لِيثب إلى الحياة من جديد، فهو يعتنق المبدأ الشمسي الذي يمهّد لإشراقة الأمل وانبساط أساريره، واليقظة الحافلة بالحماسة والنشاط والانطلاق، ثمّ يعود فيتقوقع في سرّ الظلام ويختلق الأعذار ليبقى فيه ويمارس النقد الذاتي اللاذع والدائم.

 

في عدد من قصائده التي ترجمها الكاتب إسكندر حبش يقول فرناندو: «مجردة جداً فكرة كينونتك/ التي تأتي إليّ، ناظرة إليك، التي تركت/ عينيّ في عينيك، تتوهان عن بصري/ ولا شيء يبقى في نظرتي، وجسدك/ يبتعد عن نظري بعيدا/ وتبقى فكرة كينونتك قريبة جدا/ من فكرة أنني أنظر إليك، ومن معرفة/ تجعلني أعرف بأنك موجود، وبأني - عبر كوني واعياً بك فقط/ أفقد الإحساس بنفسي/هكذا في عنادي لكي لا أراك، أكّذب/ وهم الإحساس وأحلم/ لا أراك، لا أرى شيئاً، لا أعرف/ بأني أراك ولا حتى بأني موجود، باسماً/ من عمق هذا الغسق الداخلي الحزين/ الذي عبره أحس بأني أحلم بأني أشعر بوجودي».

 

ثمّ ينتحبُ فرناندو حنيناً لمواويل القرية في الغسق المتمدّد كسجدٍ عسجيّ يتمرّدُ كأنثى بطغيان أنوثتها، يتململُ في مفردات التعبير الزاخرة بالانحناءات الملتوية بين معاناته وعذابه الخاص ومعاناته الذاتيّة، على غرار آرثور رامبو وأندريه بروتون وجان جاك روسو، يحسب حساب المكان والزمان ويتسلّط على الطبيعة بمنظاره الخاص، فلا الانتماء الحسيّ يهمّه أو يكترث له، ولا حتّى الاختلاجات الدفينة التي تراوده في خرق الناقوس لقواعد المجتمع أو لمصطلحات العشق. لأنّ استيهاماته الشخصيّة تكمنُ في تصوّره بأنّ للقرية سلطاناً بيّناً عليه، ليتجلّى تعبيره في فلسفةٍ أغريقيّة تنحازُ للنظريّة الأورفيوسيّة التي انشقّت من الكاتب والموسيقي الأسطوريّ أورفيوس، والذي في الميثيولوجيا الرائجة اندرج اسمه تحت لقب نبي في الديانة اليونانيّة القديمة، وقد طغى بعزفه على سائر مخلوقات الأرض لينجذب إليه كلّ من دبّ عليها، وقد انتقده لاحقاً أفلاطون الذي اعتنق النظرية المثالية ونعته بالجبان الأخرق لأنّه وَهبَ محبوبته الموت بدل الحياة. هكذا نرى فرناندو العاشق والحائر والسائر في متاهات القرية التي تلهب عاطفته بأحاسيس جارفة لتتجلّى في خيمياء الزخرفة التعبيريّة الحارّة. فيعبّر قائلاً: «يا ناقوس قريتي/ يا ناقوس قريتي/ الناحب في المساء الهادئ/ ككلّ نقرة من نقراتك/ ترنّ في قعر روحي/ وتقرع ببطء شديد/ كما لو أن الحياة تُحزِنك/ وما إن تدق القرعة الأولى/ حتى ترنّ كالصدى/ زأرت حقاً قربي/ حين مررت، شارداً أبداً/ وبالنسبة إليّ، أنت كالحلم/ ترنّ في البعيد داخل روحي/ كل ضربة من ضرباتك/ ترج في السماء المنفتحة/ أحس الماضي أبعد/ أحس الحنين أقرب».

 

تحتاجُ قصائده إلى معاينة الشعور الداخلي الذي ينبض في قعر قصائده ويستعلي على الانتحار الاراديّ الذي يحترفه بعض الشعراء في الكتابة لترتوي من نشوة الموت على ضفاف الشعر، ويهندس وينظّم ولكنّه يحار بين الواقع واللاواقع، ويرتّب حساباته على تَلقّي الوصف والتغنّي بالموصوف بأسلوبٍ احتباسيّ، وانطولوجيا اليأس المغنّى، في صورٍ فوتوغرافيّة من اختلاق مخيّلته. فها هو يمضي بعيداً ويسرح طويلاً في التصدّي الحاصل بين الرؤى الراشحة في بصيرته والتهيّؤات الراسخة في مسيرته، ليتوحّد بينهما ويصل إلى المتلقّي من دون أيّ جهدٍ يذكر. فيقول في لهجةٍ يتّخذ فيها مسافة بين الرؤى والرؤيا وهو يقبض على رهان الإحساس الذي يتدفّق سخيّاً لديه: «تغني، حاصدة القمح المسكينة / تغني، حاصدة القمح المسكينة/ تظن نفسها سعيدة، ربما/ تغني، وتحصد القمح، وصوتها، مليء/ بترمّل مجهول وسعيد/ تتأرجح مثل نشيد عصفور/ في الهواء الأنظف من عتبة/ كم من انحناءات في اللُحْمَةِ الناعمة/ للصوت الذي تنسجه في نشيدها!/ سماعها، يجعلنا سعداء، حزانى/ مرّ العمل والحقول في صوتها/ وتغني كما لكي تغني، كما لو أنها/ تملك أسباباً أخرى غير الحياة».

 

الحياة عند فرناندو غناءٌ متواصل يعبّر عنه في قصائده، وعناءٌ متداخل يزجّ به في قاع الانطواء ليحكم عليه بالتناقض، ولكنّه شعر فأشعر الآخرين بما يجعله غير متسمّر في مكان واحد، فهو يجول بالعين الطرقات والشوارع والقرى والناس والأفكار والترحال والتجوال، ويضع اللصق الفني داخل شعره بأسلوبٍ متفرّد، وينفرد بمحاورته لنفسه وللقصيدة بزخم التفنّن الذي يحترف غواية الصمت الناطق. فيقول: «أحياناً لا أزيد أكثر عن ملحد/ بهذا الإله الشخصي الذي أكونه في نشوتي/أتأمل في داخلي سماء بأسرها/ وهي ليس سوى سماء عالية وفارغة».

 

فرناندو بيسوا إرث نوعي يجتاحُ اجتياحاً استكشافيّاً عالم الانسانيّة، ويرسم في النور خيلاء وغطرسة الشاعر الذي اكتشف أنّ الشعر وثيق الصلة بهذا العالم الواسع ونفسٌ سابحٌ في التجليّات الضوئيّة، وقد ترك عدداً من قصائده من دون أن يُعثر على عناوينها أو ربّما غفل عن إعطائها العنوان الذي يليق بها لتوقه الماس لدمجها وصهرها في فلك دائر حول الطبيعة والحياة، وكي تتأبّط مسار الشوق في انتحاءٍ نوعيّ، وكي يظلّ مُمسكاً بتلابيب الدفّة يقودها ويغيّرها ساعة يشاء، ممّا يزيده شقاءً وانتشاءً بعالم الشعر الذي نسب نفسه إليه فاستقبله الأخير فاتحاً ذراعيه بحذر.

theme::common.loader_icon