عن التلقين العقائدي الذي يلغي التفكير في إصلاح العطل
عن التلقين العقائدي الذي يلغي التفكير في إصلاح العطل
د.مصطفى علوش
Thursday, 24-Nov-2022 06:18

«وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ» (المتنبي)

 

عندما كنت في التاسعة من عمري كنت أرتاد مع بعض الأقران مسجدًا قريبًا من مدرستي نهار الجمعة للصلاة. مباشرة بعد ذلك، كنا نتحلّق حول رجل دين لنحفظ بعض السور من القرآن الكريم. لم يكن هم الرجل أبدًا أن نفهم ما نحفظه، ولست متأكدًا اليوم إن كان هو نفسه يفهم المعاني أساسًا، لكنه كان مهتمًا فقط بالتلقين، وبالأخص كيف يكون التجويد ومخارج الحروف، ولولا لجوئي إلى التفاسير لاحقًا لبقيتُ على الأرجح أحفظ وأردد من دون أن أفهم.

 

ما همنا من ذلك! ولكنني لاحظت أن الأسلوب ذاته في «التلقين» تتبعه الأحزاب ذات الطابع العقائدي المتحجّر بمختلف أنواعها، يمينًا ويسارًا، إلحادًا وتدينًا. المهم هو أن يتقن الحزبي فن الكلام فيما تم تلقينه به، ومن ثم رَشقه بنحو متسلسل ومترابط من دون تفكير، ليفحم الآخر الذي يسعى للتفكير في ما سمعه ليبني على هذا الشيء مقتضاه. لكن مجرد أن يفكر الآخر للحظات في الجواب، فإنّ الحزبي سيعتبر نفسه منتصرًا، وربما يقوم برَشقة ثانية ليقضي بها على المفكر، معنويًا بالطبع، فالمهم هو تسجيل انتصار جديد.

 

مع الوقت بدأت أفهم أن الفكر والتلقين عدوّان لا التقاء بينهما، وغالبًا ما يخرج التلقين منتصرًا في المناظرات، مستفيدًا من حاجة الفكر للتفكير والتمحيص في الحجج المطروحة قبل الجواب. فالتفكير قد يكون علة من العلل، وربما إعاقة منطقية لمن يتفكرون، لكون أقوالهم وتصرفاتهم تتأخر بحكم ابتعادهم عن الرد الآلي، فيما أن الآخر المُلقَن مسلّح بكميات من الخطب التي تم التدرب عليها على أيدي اختصاصيين في علم الخطابة ورش الكلام. هذا الخطاب قد يبدو مستندًا إلى تتابع منطقي، لكنه ينطلق، في كثير من الأحيان، إلى مسلمات وقواعد وهمية، لكنها تصبح من البديهيات التي لا تحتاج للتفكير بها لقولها أو الالتزام بها، فلا تقع البديهيات عادة في دائرة المساءلة، لكونها فقط مسلّم بها.

 

يقول الفيلسوف مارتن هيدغر في بحثه العظيم «الكينونة والزمن»، انّ البديهي الساري يوميًا غالبًا ما يحجب جوهر الأمور، لمجرد أنه بديهي مسلّم به. لكن هذا البديهي يقع في دائرة المُساءلة عند حدوث عطب في مسار الأمور المستندة إلى البديهي المسلّم به. وهنا، سيسعى البعض إلى إعادة دراسة مكونات البديهي، ومن ثم ستكون هناك فرصة للبعض للوصول الى جوهر الأمور من خلال تخطي المسلمات. هنا، قد يحضّ ذلك بعض الناس على تغيير مسار فكرهم وحياتهم بنحو قد يبدو أحيانًا أنه خيانة شخصية أو اجتماعية.

 

ما لنا ولكل ذلك الآن، لكن الشيء بالشيء يذكر. فمنذ أيام شاركت في نهار دعت إليه مؤسسة «فريدريش نومان» لطاولات حوارية عن وجوه الليبرالية المختلفة، من اقتصاد وحقوق إنسان وحرية صحافة. كان من المنطقي أن يتم التطرق إلى قضية إيران المُلحّة اليوم، وهي الانتفاضة المستمرة التي أطلقت شرارتها قضية «مهسا أميني»، وكانت الخلفية المباشرة هي الحجاب المفروض بالقانون على النساء والفتيات، حال بلوغهنّ سن التكليف الشرعي في إيران ومستعمراتها حيث تنتشر الميليشيات التابعة للحرس الثوري.

 

هنا انبرى بعض الشبان والشابات من الحضور برشقات متوالية من الكلام الهجائي للغرب وللمتحدثين عن حقوق الإنسان، مؤكدين أنه لا يحق للغربيين فرض قيمهم الاجتماعية ولا الثقافية على العالم. وبالتالي، فإنّ ارتداء الحجاب في إيران هو قضية فولكلور شعبي ووطني وعقائدي لا يحق للغرب التذرّع به لاتهام إيران بانتهاك حقوق الإنسان. صفق البعض القليل من الحضور، في حين كان المحاضرون يفكرون في طريقة الرد، فاعتبر من أطلق الخطاب نفسه منتصرًا لمجرد صمت الآخرين. بعد التفكير، كان رد إحدى المحاضرات أن الكلام موجّه إلى دول غير موجودة في الاجتماع، لذلك فهو يخرج عن موضع النقاش، أي عن موضوع الحقوق الفردية للإنسان. فلا بأس أن يكون لإيران لباسًا أو عادات ذات طابع فولكلوري شعبي محبّب، لكن الإشكال هو في كون هذه العادات وطريقة الملبس مفروضة بالقوة على الناس. ففي الغرب أيضًا فولكلور، لكن لا توجد شرطة أخلاق أو مطوعين أو فرقة للنهي عن المنكَر تجوب شوارع باريس أو أثينا أو واشنطن، فارضة سلوكًا شخصيًا محددًا بالقانون، طالما أنه لا يعتدي على أمن الآخرين وحريتهم.

 

الأمر في إيران اليوم يتخطى في جوهره قضية مهسا أميني، ولا مدى التزامها بتفاصيل وضع الحجاب، ولربما كانت قد ضاقت ذرعًا بفرضه عليها عنوة، أو حتى فاتها عن غير قصد الالتزام بتعليمات ولاية الفقيه بكل تفاصيلها، ولربما كانت غير مقتنعة بأنّ عليها التزام النفاق بفِعل ما هي غير مقتنعة به. لكن ما حدث بعد ذلك لا يمكن تفسيره إلا انفجار الاحتقان الرابِض على صدور الإيرانيين، رجالًا ونساءً، منذ عقود من ضيق مساحات الحرية، وفرض الفروض عليهم بمظاهرها غير الجوهرية، مثل الحجاب والالتزام بما ظهر من دون البحث في جوهر الأمور. لكن، لا يهمّ النظام في إيران جوهر الأمور، ما يهمه الالتزام بقواعد سلوك معينة، تؤكد سيطرته على الناس علنًا، بغضّ النظر عما يضمرونه سرًا. فسِمة الأنظمة الديكتاتورية واحدة مهما اختلفت العقائد المؤسسة لها، وهي تستند إلى مظاهر الخضوع المطلق علنًا، ولا يهم ما يحدث في فكر الناس. المهم الحفاظ على شلل منظمة من الناس يتم تلقينها وتحفيظها ما يجب أن يُقال، بغض النظر عن الوقائع والمعطيات التي تفترض العكس، أو على الأقل تطرح المسلمات في موضع المساءلة.

 

لم يكن عند الشبان الذين كانوا في الاجتماع الليبرالي في بيروت أي تعليق على اتهام المحاضرين العلني لـ»حزب الله» باغتيال لقمان سليم أو محمد شطح ولا رفيق الحريري، فلربما لم يتم تلقينهم كيفية الرد على هذا الموضوع، أو الأرجح هو أنهم يعتبرون القتل من الضرورات في مسار العقيدة، لمجرد إزاحة العوائق أمام تحقيق الأهداف، كما كان الوضع بالنسبة لرفيق الحريري، أو لردع مَن حاول الدخول في حوار موضوعي مع رئاسة إيران حول وضع «حزب الله»، كما كان بالنسبة الى محمد شطح، أو لإرهاب أبناء البيت من خطورة الخروج عن الطاعة، كما حصل للقمان سليم.

 

كان من المنطقي مثلًا أن تدخل الاحتجاجات المتكررة ضد النظام في إيران مسألة ديكتاتورية ولاية الفقيه في موضع المُساءلة لمجرد حدوث العطل في مسار الأمور البديهية، لكن الواضح هو أن النظام هناك، كما أعوانه، ماضون إلى النهاية بمزيد من القمع لأن إصلاح العطل يعني نهاية عهدهم. فمسار المواجهة في إيران على هذا الأساس طويل ودموي، فلن يتخلى من هم في السلطة ببساطة عن مكاسبهم في الاقتصاد والسياسة لأنّ بضع مئات من الإيرانيين سقطوا على الطريق، فسيأتي حتمًا مَن تم تلقينه لاتهام دول الغرب بافتعال مؤامرة ما.

 

theme::common.loader_icon