«إبنة البخيل» نبشٌ في فساد العالم
«إبنة البخيل» نبشٌ في فساد العالم
نسرين بلوط
Friday, 23-Sep-2022 06:12

عندما تغلي مراجل الفوضى في لبّ الإنسانيّة، وتتمرّغ النّفس الإنسانيّة في ملهاة الطمع التي تنتجُ عنها كوارث اجتماعيّة ونفسيّة جمّة، يضمحلّ شعور المرء بأهميّة السعي والاحساس، ويتبقّى له معمعة الفوضى وبهرجة الأقنعة المتحرّكة ورحيق الأنفاس، التي تتفتّح له وقت حاجتها وليس بدافع عاطفتها.

في رواية «ابنة البخيل» للكاتب الفرنسي دي بلزاك، تتصدّع الأهواء وتتلاشى الأحلام في مراتع البؤس، فلا ينفع وقتها الذهب أو المال، ولا يشفي الهوى داء العليل الذي أنهكه ما تغامَز من أحجية الغدر ليزدرده الحزن الأبدي الذي لم ينفع معه سحر الحياة.


أوجيني غراندي بطلة القصّة، هي ابنة غراندي التاجر الفاحش الثراء الذي يعيش عيشة المعوزين مع أسرته حتّى يدّخر ماله في عبّه ولا ينفق منه حتّى وإن عانت زوجته من أغلال المرض الفتّاك، فيقاوم ضدّ الحدود والسدود لكي تتجمّع دراهمه في أكياس كبيرة، تشغل ليله ونهاره، وتحوم حول ابنته العائلات الغنيّة التي تستبق نيل رضاها كي ترصد ثروة أبيها، فتنشأ الفتاة بلا إرادة حرّة أو قرار ذاتيّ، تطغى سذاجتها على إدراكها.


تنقلب الأحوال ويتغيّر مجرى الأمور بقطع النظر عن اتّخاذ البخيل الحيطة والحذر، عندما يَفِد إليه ابن شقيقه الشابّ المترف الملامح، الوسيم الوجه، في زيارة من المفترض أن تكون خاطفة، ولكنّه يحمل إليه رسالة من والده يُنبئه فيها بأنّه سيقدم على الانتحار لإعلان افلاسه من دون علم ابنه الذي اعتقد بأنّ غرض أبيه مِن دَفعه لزيارة عمّه كانت بهدف التّعارف والتواصل فقط لا غير، وأنّه سيعود لحياته الرغِدة في باريس.


ونظراً لمنطق البخيل الذي لا تستعصي عليه عقدة، يعالج الأمر بالرويّة والاتّزان ويقرّر ارسال ابن أخيه إلى الهند ويقوم بالادّعاء بأنّه أنقذ شرف أخيه من الإفلاس وسدّد ديونه وهو يستغلّ وضعه حسابيّاً ليستفيد بما تبقّى من مدّخراته وأملاكه.


قبل رحيله إلى الهند، يقع الشاب في حبّ ابنة عمه أوجيني التي تحدب عليه عطفاً، وقد كان بمثابة راعٍ لأحلامها الفتيّة الذي يقودها في النهاية إلى المذبح.


فقد تعاهدا على الصبر ووعدها بالعودة إليها للزواج منها بعد أن يجمع الأموال اللازمة لذلك، وتقرضه من مالها الذي جمعته لسنوات طويلة من دون علم أبيها ويترك لها قطعة حلي كذكرى من والدته في عهدتها حتّى تسلّمه إليه فور رجوعه.


لا تنكث أوجيني بالعهد بل تسهر عليه وترعاه وتتجنّب ثورة أبيها حتّى تظفر بفتى أحلامها، ليصبح الآخرون يمثّلون لعينيها أسفل دركات البشر الذين يسعون لينالوا مآربهم ولو داسوا على مبادئ الخلق القويم. فترفض كلّ الطامعين والمستغلّين والعابثين بالحبّ الحقيقيّ، ومن يتّبعون مواضع الغفلة ومن لم يقدحوا نور السلام الداخلي بزناد الحكمة والعشق الروحي.


تظلّ أوجيني ساهرةً على حلمها البسيط، وتموت أمّها بعد مرضٍ عنيف يلمّ بها ولا تجد علاجاً ناجعاً مع زوجٍ بخيل حرمها طيلة حياتها من أبسط حقوقها الإنسانيّة في الطعام والطبابة والتدفئة، وبعدها بسنوات قليلة، يموت والدها البخيل كمداً وحزناً لأنّه أدرك بأنّه لن يصطحب ذهبه معه إلى القبر، وكانت آخر وصيّة له طرحها على الكاهن، الذي أتى ليصلّي على روحه قبل الرحيل، أن يدعه يتلمّس جواهره ويحتضنها في نشوة محمومة.


وتبقى هي منتظرة قدرها الذي يتمثّل في حبيبها الغائب، وقد طال غيابه لمدّة سبع سنوات وهي غافلة عن تصرّفاته الرّعناء التي اشتهر بها بعد تَغرّبه، فقد جمع ثروته بطرق غير مشروعة، بالتّزوير والتّرهيب والتخريب، وقرّر أن يرتبط بفتاة دميمة ادّعت أمّها أنّها من نَسبٍ لائق لتغرّه بها، وقد كان يخال لشدّة بخل عمّه بأنّ أوجيني فقيرة لا تمتلك أيّ ثروة، فتنساب البصائر في السرائر وتنكشف خدائعه من خلال رسالة يبعث بها لأوجيني يشرح لها أنّه اضطّر أن يخطب فتاة ثريّة تتمتّع بمكانة اجتماعيّة مرموقة، وأن يدفن العهد القديم لها في طيّات النسيان، ويسدّد لها قرضها القديم له، ويطالب بحلية أمّه الغالية عليه، ويشكو لها خوفه من عدم إتمام زواجه بسبب ديون أبيه المتراكمة.


تتّضح محجّة الحق لأوجيني وتدرك أنّ الضلالة كانت تلاحقها وأنّ ما فهمته عن ابن عمّها كان محض أوهام مبعثرة، فتبعث إليه برسول من عندها يُدعى دو بونفون، وهو خاطب لها، وقد وافقت على طلب زواجه منها رغم يقينها بأنّه يطمع بإرثها، على شرط ألا يلمسها بعد الزواج، وأن يذهب إلى ابن عمّها فيسدّد دين أبيه كاملاً، ويعيد إليه حلية أمّه وينبئه بمباركتها لزواجه الميمون.


تتزوّج أوجيني التي عاشت سنواتها كاملة في ربى أفكارها المقدّسة، بحسب وصف دي بلزاك لها، من دو بولفون الذي عامَلها معاملة طيّبة رغم طمعه المتّقِد بماله وبعد أن صاغ عقد الزواج بطريقة ماكرة، إذ يعطي فيه كلّ منهما في حال عدم إنجاب أطفال كلّ ما يمتلك في حال موت أحدهما، ولكنّ المنية تكون له بالمرصاد فلا ينال سوى حفنة التراب التي تحتضن جسده الخاوي.


تعيش أوجيني وحيدة مع أشباح الماضي ووهم الحبّ الذي غافلها وعانَدها وانسلّ من أناملها بلا هوادة، فتُنشئ جمعيّات خيريّة وتمدّ يد الخير لمن حولها من المحتاجين، ولكنّها تحتفظ بحياتها البسيطة التي عوّدها عليها والدها البخيل.


رواية «ابنة البخيل» نبشٌ في فساد العالم الذي لم يستوعبه فكرٌ بشريّ لشدّة استئثاره بمصائر الناس ومشاعرهم، وقد نجح دي بلزاك بعبقريّته الفذّة في عرك أديم المجتمع بشروره وما يمتلك من هزيل الحب وما يركبه الجهل من مراكب وما تقدّمه النفس الطمّاعة من مواهب، وقدّم قصّة حزينة تصلح لكلّ زمن ومكان. فيقدّم خليطاً من النفايات البشريّة التي تميل للاتّجاهات الدنيويّة وتنحدر إلى قاع النزوات المتضاربة.

theme::common.loader_icon