«اليهودي الحالي» عندما تصبح الأديان نكسة للإنسان
«اليهودي الحالي» عندما تصبح الأديان نكسة للإنسان
نسرين بلوط
Saturday, 17-Sep-2022 06:53

تتعادى الدول وتتطاحن، تتآلف وتتناحر، تتعاون وتتجادل، يحكمها العقل ومنطق الحروب والتنازع والتباري والتّصادم، فتتخذُ المكرَ شعاراً، والخبثَ شعاراً، وتتنوّع الأديان وتحتلّ هزيع الكون باختلافها وأساليبها التي تبدو أهدافها متضاربة ومصادرها مُتشاكسة، ولكنّ جوهرها واحدٌ يستدلّ على طريقه ضوء الايمان، يشقّه في قلب الإنسان الذي هو صورة الله.

أمّا قلوبُ البشر، فتعيش في صومعة الانقلاب والتمرّد على كلّ ما يحدّ من تدفّق مشاعرها، ولا تربط مشيئتها بمشيئة الدّين والعادات التي تنتج عن تعاليمه، والقدسيّة التي تفرض حدوداً وقيوداً تحجبها عن العشق والحريّة، فينشأ الصراع التّاريخي بين إرادة القلب والالتزام الدينيّ، ليقلّبَ الإنسانُ رقعة وجهِ الأرض، باحثاً عن مخرج أو مهرب، ليجدَ التعسّفَ والرفض فلا يسعه إلّا الانقلاب على واقعه لينبشَ طلاسمَ الكون ويلعنَ مساعيه الحثيثة في إحلال السلام الذي ينكره بنو قومه.

 

في رواية «اليهودي الحالي» للكاتب علي المقري والصادرة عن دار الساقي، نبشٌ في الوهم الفادح الذي خلّفه مفهوم الأديان في أرض الله، فقد حلّت في الأرض للسلام ولكنّ الانسان أساء فهمها وتنكّر لعمقها وتكبّرَ عنها، وحصر ذاته في هوامشها، فامتنع عن الانفتاح على دين الآخر، واحتجب بنفسه عنها، ورَتق ما تفتّق من جلود تعصّبه، فخالف وحالفَ البغضَ والعداوة لأخيه الانسان بلا مبرّر يُذكر.

 

يروي المقرّي قصّة يهوديّ نشأ في عهد المتوكِّل على الله إسماعيل بن القاسم وخليفته أحمد بن الحسن الملقّب بالمهدي والأمير علي بن المؤيد الملقّب بجمال الإسلام في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، في الحيّ اليهودي في اليمن، وقد بدأت العقدة تطرح نفسها منذ بداية الحكاية عندما يدأب الطفل اليهودي سالم على الذهاب إلى بيت المفتي لتلبية طلبات بيته، وهناك يرى ابنته فاطمة التي تكبره بخمس سنوات والتي تتلمّس وجهه بإعجاب ولهفة ثمّ تعرض عليه أن تعلّمه كتابة قراءة اللغة العربيّة.

 

تبدأ فاطمة بتعليمه آيات من القرآن الكريم فيعود إلى داره مردّداً إيّاها بفرح وحماس ظاهر، فيجنّ جنونه والديه وأخيه والجار، ويدبّ الجزع في قلوبهم وهم المتمسّكون بمبادئ الدّين اليهودي، فيقول المقرّي في وصف هذا المناخ الذي يسوده التعصّب والقلق: «ما فعلته فاطمة كان كمَن أشعل حريقاً في الحيّ اليهودي، مع أنّها لم تعمل شيئاً. علّمتني القراءة والكتابة فحسب». ينقطع عندها عن الذهاب إلى بيت المفتي ولكنّ فاطمة تزور منزلهم وتقنع والده أن يسمح له بالعودة، فيوافق على طلبها، شرط أن يتلقّى دروساً على يد الحاخام في الدّين اليهوديّ أيضاً.

 

تدبّ دلالات مقنّعة بالبساطة في الظاهر ولكنّها تضمّ تفاصيل تعبيريّة صارخة في الباطن، عندما تردّد فاطمة في أذن سالم بعض الكلمات كأنّها تعدل من خلالها عن ضراوة العداوة بين الدينين، مؤكّدة بأنّ الإسلام واليهود هما أولاد عم، وأنّ النزاعَ القائم لا يلغي هذه القرابة، فيعيش سالم تائهاً بين جوّ اللطف والودّ السائد في قلب فاطمة والخصام والتوتّر والانقلاب الذي يؤجّج قلوب أهله اليهود بالغضب والحقد للمسلمين، خاصّة إثر المناقشات الحامية المستمرّة بين جاره أسعد اليهودي، ومؤذّن الجامع المسلم الذي يردّد بغضب كلّما لمحه عبارات تَشي بالكره والمقت، فيسأله ساخطاً: «متى سترحلون من بلادنا؟ متى ستخرجون من بلاد العرب؟».

 

يُعييه هذا الصراع المحتدم، وهو الذي اعتاد حنوّ فاطمة وبدأ قلبه يستشعر الشغف بها خاصّة بعد أن مرّت سنوات وهو في كنف رعايتها، إلى أن أمره والده الكفّ عن الذّهاب إليها بعد أن كبر وأصبح يافعاً، والعمل معه في صناعة القمريّات. لقد تردّد حلم الذّهاب إلى أورشليم في أرجاء حيّه كالحلم الزمرّدي في ليلة صيف، وأصرّ والده بأنّه حقّ اليهود الشرعيّ الذي يبيح لهم بالعودة إلى موطنهم بعد أن قضوا أربعين سنة تائهين في الأرض بسبب غضب من الله.

 

المسلمون ينظرون إلى اليهود بأنّهم قومٌ مغضوبٌ عليهم، يتيهون في الدّنيا يتخبّطون بما اقترفوا من آثام وما ارتكبوا من زلّات، واليهود يرقبون المسلمين بعيونٍ متحجّرة متّهمين إيّاهم بأنّهم عبثوا بضرعهم وزرعهم وضيّعوا أرضهم، وسالم وفاطمة لا يفقهان من هذا النزاع الدامي غير أنّهما التقيا واجتمعا ليبقيا معاً.

 

تزيد قصّة انتحار ابن مؤذّن الجامع قاسم وابنة أسعد اليهودي نشوى معاً بسبب رفض الأهل تزويجهما، من تصاعد الأزمات بين اليهود والمسلمين، ثمّ يهرب ابن المؤذّن الآخر علي مع ابنة أسعد الصغرى صبا، انتقاماً من أبويهما.

 

يجد سالم نفسه وحيداً بعد مرض أخيه وأبيه وأمه ووفاتهم، وترسل له فاطمة رسالة تهبه فيها نفسها وتسأله أن يتزوّجها وتملأ ضميره وجداً وأشجاناً، فيوافق في الحال ويرحلان سويّاً إلى صنعاء حيث يقصد خاله ليعمل معه، ويعرّفه الى فاطمة على أنّها فتاة تدعى فيطماه وأنّها أصبحت زوجته.

 

تحمل فاطمة وتموت وهي تلد طفله سعيد، فلا يجد سالم مفرّاً من الاعتراف للجميع بأنّها مسلمة فيغضب خاله وتدفن في قبر مهجور بعيد عن قبور اليهود بحجّة أنّها كافرة.

 

يأخذ سالم طفله ويقصد شقيقة فاطمة ليعهد إليها بأمر تربيته، ولكنّها ترفض استقباله بحجّة أنّ فاطمة أصبحت مُلحدة بعد أن تخلّت عن أهلها ودينها. يلتقي أخيراً بعلي ابن المؤذّن فيعرّفه الى نائب الإسلام ويقرّر اعتناق الإسلام على يديه ويعمل كاتباً عنده، وتنشب بعدها أحداثٌ متسارعة الخطى، فقد ترامت لليهود أخبار عن ظهور المسيح المخلّص حيث بدأت دعوته في تركيا، فسمّاها الكاتب بـ»أعوام الأحلام اليهوديّة»، فأمر المهدي بإجلاء اليهود عن صنعاء لأنّهم عاشوا الحلم وفاض بهم الخيال حتّى تزعزع الأمن، ولكنّ مخلّصهم المسيح نفسه كان قد أعلن إسلامه بعد أن بعثَ أحلامهم بكلّ بساطة.

 

يقرّر سالم أن يصاحبهم في رحلتهم إلى أطراف اليمن لتوديعهم، وكان من بين النّازحين ابنه سعيد الذي شبّ وتزوّج من ابنة علي وصبا.

 

ينهي حفيد سالم كتابة هذه القصّة بعد وفاة جدّه ليخبر القارئ بأنّ الأخيرَ توفّي ولم يستطع والده سعيد أن يدفنه في المقابر الإسلاميّة، لأنّه ما زال يُحتسب على الديانة اليهوديّة، فلم تتقبّله أرضٌ كما حدث مع جدّته فاطمة. ويمضي سعيد في الصباح وفي يده صرّة نحو الشرق، وقيل انّه توجّه نحو الغرب، والبعض تكهّن أنّه توجّه جنوباً، والبعض الآخر أصرّ أنّه ذهب شمالاً، وربّما تاهَ في صحارى التكهّنات والتأويلات التي انهمرت لتخبرَ عن مأساة ضياعه في ظلّ اختلاف ديانة والديه.

 

علي المقرّي كتب بأسلوبٍ مشوّق جذّاب، سراجُه في الليل والنّهار سلاسةُ السّرد من دون أن يظنّ بالدّين حيفاً، ولكنّه لم ينجح في تهيئة جوٍّ تاريخيّ حقيقيّ ليؤطّر به قصّته، وقد لعب على الفطن الدفينة في البشر في تمييز ما هو محقّ وحقيقيّ عن التفرقة الإنسانيّة بسبب الدّين فالشرّ بالشرّ ملحق، وكأنّه ينادي بصوتٍ أجوف من المرارة الداخلية: «طوبى لمن عاشَ في عصر العدم».

theme::common.loader_icon