"القرار الأخير" لنجيب محفوظ، شهريار إن حكى
"القرار الأخير" لنجيب محفوظ، شهريار إن حكى
نسرين بلوط
Monday, 29-Aug-2022 06:08

هموم النّاس ومجالستهم ومخالطة آلامهم ومداواة جراحهم من خلال عَرضه لمشاكل الشارع وما يترتّب عليها من تصاعداتٍ نفسيّة واجتماعيّة مهلكة، أن يرتقَ عباءة الحياة التي عمّت مكيدتها وحيلتها في عقول البشر، ويغربلَ طورَ الطفولة عن طور النّضج، ويحكي عنها بأسلوبٍ فلسفيّ اكتسبه من مراحل العمر، فكانت له هذه الحكايات بمثابة فنجان قهوةٍ يرتشف منه بأناة ويجرّد الأشياءَ من هويّتها الحقيقيّة ويدخلها عالمَ المجاز ويضرب بطرْفه شطآن الصّبر والمكر والخيّر والشرّير وكلّ ما يتلاطَم في بحر الدّنيا من زبد الخبرة.

 ربّما ما يميّز صوت النفس عن غيره من الأصوات المتدافعة في دنيا الله، هو الانقيادُ الأعمى لرهبة الفلسفة التي تميّز المنطقَ عن العقل، ويشحذ القوى الكامنة في أنصار وأخصام الضمير، وقد أراد نجيب محفوظ في مجموعته القصصيّة "القرار الأخير"، وهو المعتاد على ملامسة هذه الخلوة الذاتيّة التي دبّت معالمُها في مخيّلته، تشملُ المتطفّلين على الآخرين والمتورّعين في تكهّناتهم والمتنزّهين في نزواتهم، وفي قصّته التي تضمّنت وجدانيّاتٍ تزخرُ بالشغف والحنين والتورية يصفُ مرحلة الطفولة ومشهد الحارة بدكاكينها وحلوياتها ومعالمها وزخرفاتها ورهجتها وفرحتها، ويبدأ شرحه بمقدّمةٍ تشي بما يصخب في عقله من مشاعر: "في حومة الهموم لا بأس من التماس الرّحمة في رحاب الأشياء التي أحبّها القلب. هي أيضاً حقيقة، غرست جذورَها في الوجود. ومن حقّ الحرّان أن يجفّفَ عرقه ويبلَّ ريقَه - وفي كلمةٍ أو كلمتين نعرفُ سرَّ الدّنيا والآخرة. حقّاً إنّ المخاوفَ كثيرة، الظلمات محدّقة، ولكنّ الله رحمن رحيم، ينشرُ عنايتَه الإلهيّة فتحيط بكلّ شيء، وقد يسّرَ لنا مفتاحَ الأمن والأمان".

 

ثمّ يعرجُ على سنّ المراهقة التي تفيضُ بتساؤلاتٍ ملحّة ومزاجيّة متقلّبة، فينفض عنه وزرَ النّضوج ويغوصُ في عوالم الشباب المتوقّدة بالطّموح والرّغبة والاكتشافات والملاحظات والتجاوزات، ويختمُ سردَه بوجدانيّةٍ خالصة ويبرمُ عهداً للعمر بأنّ التفلسفَ في كَنهه لم ينته ولن ينتهي، فيقولُ بقناعةٍ والفة: "لكن مهلاً. هي فترة قصيرة، ولكنّها تحملُ أجنة احتمالات لا تعد. تشهد مولد الأسئلة الخالدة، والحب، والجنس، والصّداقة، والقيم، والحياة، والموت، في رحاب ذي الجلال. ألحانٌ أساسيّة تنمو وتتنوّع مع العمر، تتلقّى من البحر الثّرى أمواجاً متدافعة وآفاقاً مترامية. توزّعنا الأهواء والتأمّلات، الحلم والأفعال، الانكماش والاندفاع، ولا نتخلّى عن الرّغبة الأبديّة في الاهتداء إلى مصباحٍ يضيء لنا طريق المصير".

 

في قصّة "دخان الظّلام" يهوي محفوظ بفأس الخوف على مفاصل الكلام، فيرسم مشاهد الرّعب والغموض عندما يجوبُ رجلٌ ما، بعد أن انتهى من رحلة استجمامية مع رفاقه، والكاتب لا يذكرُ هويّته ولا سنّه أو ملامحه، الطرقات الخالية من النّاس ويلمحُ أشباح الرّعب وأحياء أموات وجماجمَ بشريّة ومطارقَ وحواجز ومحاجرَ قلقة، وعندما يطرح سؤاله ينتفضُ قلبُه بوعورة الشّعب الملتوية التي يواجهها، فلا أحد يجيب، والوجوه شرسة والأرواح تحتشد بالشر، حتّى تكاد أن تُسلبَ حواسّه منه، ويتلاشى الكابوس فجأة حين يقول: "وفجأة تلاشى الجحيم فيما يشبه المعجزة. تلاشى فجأة وبلا تدرّج. هبطت اليقظةُ من مملكتها الحرّة بالسماء. يقظة مضيئة مفعمة بالعذوبة والسّلام والطمأنينة، مرحة، مريحة، سعيدة تنضحُ بالمودّة والهناء. مددتُ بصري نحو النّافذة فرأيتُ الأفقَ يزدهرُ بحديقة الشّمس المشرقة".

 

هنا تتضّح المقارنة الفلسفيّة القائمة بين اليأس والأمل، وهذه التذبذبات الإنسانيّة التي تواجه النّاس في حقل تجاربهم الشخصيّة في حياتهم. وقد أراد أن يبرهنَ أنّ انقشاعَ الغيوم أمرٌ بحتيّ يلي الشدائد التي تتعرّض لها البشريّة. وتبرز هنا فلسفة الأمل في منافذ وصفه، وهذه الفلسفة تبنّاها الإغريقُ فيما مضى فاستخدموا عبارة "elpis"، وتطوّرت وتبلورت وخضعت لمجهر التحليل.

 

في قصّة "القرار الأخير"، يحكي عن رجل قاسٍ مُعتدّ بنفسه وتربيته لأولاده وهيمنته الطائشة على منزله وغروره وفسقه واعتقاده بأنّ سيطرته على جميع أفراد عائلته دليلٌ على أهميّته بما أنّه صاحب القرار والآمر النّاهي، فكان أن ولّت ابنته فراراً منه مع أوّل رجلٍ مسنّ تقدّم لطلب يدها، ولاذ ابنه الكبير بالهرب إلى منطقة أخرى حتّى يتحرّر من جور أبيه وقهره، أمّا ابنه الأصغر فقد حاول أن يتحمّل ويصبّر نفسه، فنالَ نصيبَه من اللطم والرّكل والشتائم والذل، فبدأ يتدرّب على فنون الملاكمة حتّى يحمي نفسه، وعندما رسب في المدرسة وهمَّ أبوه بضربه، سدّد له ضربة أوقعته أرضاً، ليثأر لأمّه الضعيفة وأخويه، ومرض الأب بعد هذا الموقف المُربك، وأسلمَ الرّوح، ولكنّ الابن لم يقتله، وقد سلّم أنفاسه الأخيرة في فورة من العلّة والمرض، ولكنّه بقي في نظر الجميع قاتلَ أبيه بسبب ما اقترفه، وأُلحق به العار حتّى النّهاية، فكتب محفوظ عن دقّة موقفه قائلاً: "أورثنا موته همّاً لا يقلّ عن جنونه حدّة. وطلّقت أختي، ورجع أخي من دون أن يستقرَّ في عملٍ يليقُ به، وماتت أمّي، وكنتُ الوحيد الذي أتمّ تعليمه وتوظّف، ولكنّي أتعس الجميع".

 

هذه الثغرة الطاغية في التّربية يتوغّل فيها محفوظ بمنطق الرّائي والرّاوي، ويشيرُ إلى احتمال ضياع الأولاد بسبب طغيان الأهل وشدّة قسوتهم، فالضغطُ يولّد الانفجار ويعكّر المستقبل ويقضي على الأجيال، ويجعلهم في موقف الدّفاع عن النّفس واضمار العداوة والحقد لأهاليهم بسبب استصغارهم لقدرهم، فيظهر الفساد ويبتعدون عن مرضاة الله وتذوي الرّحمة في صميمهم، ويصبحُ المثوى والقرار بالنّسبة لهم الانتقام لكرامتهم وهوانهم من أقرب النّاس إليهم.

 

"القرار الأخير" رواية جاءت بمثابة تأمّلٍ سَخيّ لمحفوظ في حجب الحياة ومآسيها ومسرّاتها، فغمس قلمه بالمشاعر المتدفّقة، وكان فيها الواصفَ والنّاقدَ والحكيم. فصاحب جائزة نوبل لم يعتكف على العصيان، وكان أن انطلق على وتيرة المثل القائل: "شهريار إن حكي".

theme::common.loader_icon