لكتلة تاريخية للبنان الجديد
لكتلة تاريخية للبنان الجديد
شارل جبور
Friday, 19-Aug-2022 06:29

لم يولد لبنان الكبير بين ليلة وضحاها، إنما سبقت هذه الولادة تهيئة فكرية امتدّت لعقود وأسّست لهذا الكيان بأبعاده الثقافية والتعددية والمدنية والحرية والانفتاحية، فكان أوّل نموذج في الشرق مشابه للنماذج الغربية، ولكن مع فارق عدم التنصُّل من الدين والتعامل معه كغنى تفاعلي وليس كمعطى تصادمي، والتمييز بين مدنية الدستور، وبين التمثيل الطائفي، وذلك بهدف المزاوجة بين البعدين المدني والتمثيلي، وهي حالة فريدة في العالم.

لا نقيِّم نجاح هذه التجربة او فشلها، مع الميل طبعاً إلى اعتبارها تجربة فاشلة لمجموعة أسباب واعتبارات لن ندخل في تفصيلها في هذه المقالة التي يتمحور التركيز فيها على دور النُخب في صناعة التغيير. وما الإشارة إلى حقبة «لبنان الكبير» سوى للدلالة على الكتلة النخبوية التاريخية التي روجّت لهذا الخيار.


ومع ولادة الكيان اللبناني نشأت كتلة نخبوية جديدة، او شكّلت استمراراً للنخبة السابقة بالترويج لأهمية هذا الخيار، وحاولت عبر الفنّ والشعر والموسيقى والأغنية والصروح الجامعية والتعليمية والاقتصاد الحرّ والانفتاح، صناعة الفكرة اللبنانية وتحويلها إلى أمّة لبنانية، بما يتجاوز الواقع الطائفي والانقسامي، وبما يؤدي إلى خلق قضية تتوحّد حولها جميع المكونات اللبنانية وتبقى تبايناتها تحت سقف هذه القضية ضماناً لاستمرار هذا النموذج.


وكل الهدف من هذا «التضخيم» النخبوي لفكرة اللبننة التي حولّت لبنان إلى سويسرا الشرق، السعي إلى تجاوز الخلافات الجوهرية التي قد تطيح التجربة الوليدة، ظناً من هذه النخبة انّه من خلال «تضخيم» معنى لبنان ودوره يمكن تجاوز التمايزات والتناقضات، عن طريق وضع هدف أعلى وأسمى، يحوِّل أهداف المجموعات والقوى السياسية وتبايناتها إلى ما دون هذا السقف. ولكن هذه المحاولة لم تعمر، وعند ثاني اهتزاز في العام 1975 بعد ثورة العام 1958 سقطت إلى غير رجعة.


والتجربة النخبوية الثالثة تشكّلت عشية الحرب الأهلية، ومع بدايتها، وشكّلت العمود الفقري الثقافي-السياسي لـ»الجبهة اللبنانية» والذي تكامل مع العمود الفقري العسكري، ولولا هذا التكامل بين البعدين العسكري والثقافي-السياسي لما حظيت الجبهة باحتضان مجتمعها، ولما تمكنّت من مخاطبة العقل العربي والغربي، ولما نجحت في مواجهة خصومها بمشروع لبناني سياسي متكامل يتقدّم على الجانب العسكري، الذي هو في نهاية المطاف أداة تنفيذية لهذا المشروع..


وما يجدر قوله، انّ الانتلجنسيا التي شكّلت الرافعة لمشروع لبنان الكبير والجبهة اللبنانية لاحقاً، كانت متقدّمة على القوى السياسية، وأكثر حماسةً منها، ولم تنتظر دعوة من أحد لتنضمّ إلى هذا الإطار الحزبي او ذاك الإطار الجبهوي، بل اعتبرت نفسها معنية أكثر من غيرها، ومندفعة بمعزل عن غيرها.


وما يجدر قوله أيضاً، انّ أي مشروع سياسي يفقد حاضنته الفكرية يخسر مقومات استمراره، ويتحول إلى مشروع تقليدي يفتقد إلى رهان الناس عليه. كما انّ الثورة الحقيقية هي الثورة المشكّلة من الطبقة الوسطى في المجتمع، والتي تقف خلفها نُخبة فكرية وضعت الأسس السياسية للتحرُّك الشعبي التغييري.


والتجربة النخبوية الرابعة أوصلت إلى انتفاضة الاستقلال وثورة الأرز التي هي وليدة تقاطع ثلاثة مسارات: مسار سياسي ضاق ذرعاً بالاحتلال السوري وراح يتوسّع من إطار مسيحي إلى إطار وطني، ومسار دولي قرّر إخراج الجيش السوري من لبنان، ومسار مدني ثقافي وإعلامي مهّد لهذه الثورة وحرّض عليها، وهذا ما يفسِّر اغتيال سمير قصير وجبران تويني ومحاولة اغتيال مي شدياق...


وقد لعبت الانتلجنسيا الممهدة لانتفاضة الاستقلال والمواكبة لها دوراً أساسياً في الوصول إلى لحظة 14 آذار، ونجحت بشعاراتها وعناوينها في تعبئة شريحة واسعة من اللبنانيين، ومحاكاة المجتمع الدولي، وإرباك الخصوم، بدليل انّ السيد حسن نصرالله شخصياً اضطر إلى ان يردّ على شعار «حب الحياة»، بالقول: «نحنا أيضاً منحب الحياة». وقد نجحت هذه الانتلجنسيا في خلق رأي عام عريض تميّز عن محور 8 آذار الذي كان يفتقد إلى وجود رأي عام شكّل محرِّك الانتفاضة من جهة، وقوة الضغط على مكونات الانتفاضة لتحافظ على وحدتها من جهة أخرى. ولكن الطريقة الدموية التي ووجهت بها الانتفاضة، والتسويات التي انجرّت إليها أدّت إلى نهاية ثورة اجتاحت العالم بشعاراتها والآمال التي بُنيت عليها.


وعلى رغم أهمية ثورة 17 تشرين التي وحدّت الساحات واللبنانيين حول قضايا اجتماعية خلافاً لثورة 14 آذار التي وحّدتهم حول قضايا سيادية، إلّا انّ الثورة الأولى لم تتمكن من تكوين انتلجنسيا حولها لثلاثة أسباب أساسية: لأنّها خليطٌ من يمين ويسار، ولأنّها حاذرت مقاربة الإشكالية الحقيقية للأزمة المالية-الاجتماعية، ولأنّه يصعب تكوين انتلجنسيا حول قضية فرعية من دون مقاربة جوهر الأزمة، ولهذه الأسباب لم تعمر الانتفاضة وبقي تأثيرها محدوداً.


ومع استفحال الأزمة وتواصل الانزلاق وازدياد الهجرة وتعطُّل الدولة واستمرار انهيار كل القطاعات التي شكّلت العلامة الفارقة في لبنان، من القطاع التعليمي، إلى الاستشفائي والسياحي والمصرفي، ومع تحوّل الخطر إلى وجودي، ومع تمسُّك «حزب الله» بسلاحه ومشروعه وتظهيره أكثر فأكثر عقيدته الفوق البشرية ومجاهرته بالتكليف الإلهي، لم يعد ممكناً استمرار المواجهة بالطريقة التقليدية المتبعة حصراً، إنما صار لزاماً نشوء انتلجنسيا ممهدة لمشروع سياسي جديد، ينتزع المبادرة ويؤسِّس لحالة وطنية جديدة يعبئ الرأي العام حولها.


والعامل المطمئن على هذا المستوى، انّه للمرة الأولى منذ انتفاضة الاستقلال بدأت ملامح ولادة انتلجنسيا جديدة تتحرّك ضمن مجموعات منفصلة، وتبحث جدّياً في كيفية مواجهة هذا الواقع على أساس مشروع سياسي جديد للبنان، لأنّ المواجهة التقليدية مع «حزب الله» على قاعدة دولة ودويلة أعطت ما عندها، وحان الوقت لمقاربة مختلفة لطبيعة الأزمة والأهداف التي يجب تحديدها والوصول إليها.


ففي كل المشهد السياسي القاتم القائم، يمكن الكلام عن ضوء صغير في النفق الطويل المظلم. وإذا كان دور القوى السياسية المعارضة لـ»حزب الله» مواصلة سياسة الصمود في مواجهة مشروع الحزب، وهذا أمر ضروري وبغاية الأهمية، فإنّ دور الانتلجنسيا صياغة مشروع سياسي جديد وتعبئة اللبنانيين حوله. وهذا المسار التكاملي ولو المنفصل اليوم بين القوى السياسية والنخب الفكرية، إلّا انّه سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى التقاء حتمي في لحظة تقاطع داخلية بين الفريقين، بالتوازي مع تقاطع خارجي، لإيجاد حل للأزمة اللبنانية.


وعلى رغم انّ المجموعات النخبوية ما زالت تعمل اليوم بشكل منفصل عن بعضها البعض، إلّا انّ تأثيرها بدأ يكبر تباعاً. ولا بدّ من اللحظة التي تقود إلى تجميع صفوفها واتفاقها على خريطة طريق مشتركة تفعيلاً لدورها وزيادةً في تأثيرها. ولكن هذا لا يلغي معطى أساسياً وهو انّ الفكر الذي تبثُّه بدأ يفعل فعله، هذا الفكر الذي كان محصوراً في مجموعات صغيرة بدأ يتوسّع نحو مزيد من المجموعات.


وهذا التطور سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى التغيير المرتجى، لأنّ لا تغيير من دون انتلجنسيا، كما لا تغيير من دون مشروع سياسي له مرتكزاته وأسبابه الموجبة وخلفياته وأهدافه وسرديته، ولا تغيير أيضاً من دون التقاء موضوعي بين ثلاثة مكونات أساسية: الكنيسة التي انتقلت إلى المواجهة على غرار انتقالها إلى المواجهة مع بيان مجلس المطارنة في العام 2000، القوى السياسية التي تشكّل بتنظيمها وجماهيرها الرافعة الأساسية في أي مواجهة سياسية، والنخب الفكرية التي تشكّل الإطار الفكري للمشروع السياسي المعبئ للرأي العام العابر للكنيسة والقوى السياسية.


وكلّ ما تقدّم لا بدّ من أن يقود إلى ولادة كتلة تاريخية تعمل على صياغة لبنان الجديد وهندسته على قواعد انسانية وقيمية ودستورية وقانونية ودولتية، تضع حداً لأزماته الوجودية المفتوحة، وتُخرجه من دوامة النزاعات والصراعات والانقسامات والحروب والفشل، وتضعه في مصاف الدول الناجحة والمستقرة والمزدهرة.
فما لا يُجمع بإرادة مشتركة لا يُمكن جَمعه بالقوة، وما يُفرض بالقوة لا يُمكن ان يَدوم...

theme::common.loader_icon