الحرب الاستخبارية السوفياتية/ الروسية - الأميركية الضارية منذ 1975!!
الحرب الاستخبارية السوفياتية/ الروسية - الأميركية الضارية منذ 1975!!
د. إيلي جرجي الياس

كاتب، باحث استراتيجيّ وأستاذ جامعيّ

Saturday, 13-Aug-2022 12:48

الثلث الأخير من الحرب الباردة الأولى 1975-1991، شهد مواجهات استخبارية عنيفة وعنيدة وضارية، بين جهاز الاستخبارات السوفياتية كي جي بي، وجهاز الاستخبارات المركزية الأميركية سي أي أيه، على مدى مناطق واسعة من العالم... ولن تهدأ هذه الحرب الاستخبارية، حتى بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي وقيام الاتّحاد الروسيّ...

 

لن يترك الفريقان السوفياتيّ والروسيّ فرصة للاستفادة من هذه الحرب الاستخبارية الممتدّة، إلّا واستغلّوها أوسع استغلال... "وفي الفترة الزمنية قيد الدراسة (1975 - 1990)، في خضمّ الحرب الباردة وقبل نهايتها، كثرت المواجهات الاستخبارية عبر العالم بين الجبّارين:

 

الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، وبين الحلفين : حلف وارسو وحلف شمال الأطلسي، ولا مجال لذكرها جميعاً بطبيعة الحال، إلا أنّه سيتمّ ذكر بعضها، على سبيل المثال لا الحصر، ممّن أثّر في مفاصل هذه الحرب الرئيسية، وترك انطباعاً هامّاً في التاريخ الاستخباريّ العالميّ، وهي: كانت فرنسا التي تتقلّب سياستها العامّة في مجال واسع بين عهدي الرئيسين الجنرال شارل ديغول وفرنسوا ميتران، مسرحاً للصراع الاستخباريّ السوفياتيّ – الغربيّ، ولمّا تزل طائرة الميراج وتطوّرها النوعيّ في مرمى مراقبة الاستخبارات السوفياتية الدائمة والأمثلة كثيرة، كقيام فرنسا بطرد الجاسوسين السوفياتيين القنصل فياتشسلاف فرولوف ونائب القنصل غينادي ترافكوف اللذين كان اهتمامهما بطائرات الميراج 2000 يدعو إلى الشكّ والريبة، بينما كان حراكهما يتسم بالكثير من الوقاحة...!

 

أما العملية الأخطر على المسرح الفرنسي فهي عملية فايرويل حيث استطاع جهاز التجسس الفرنسي في أكثر العمليات جرأة اكتشاف أسرار ال كي جي جي عام 1981 - 1982، المكان: كونكارنو، الزمان : 28 آذار 1983. أتى الوزير المستشار الأنيق في سفارة الاتحاد السوفياتي في لبنان، نيكولاي أفاناسيافسكي ليقضي بضعة أيام في بروتان تلبية لدعوة رابطة فرنسا - الاتحاد السوفياتي. ذلك الإثنين، تلقى إتصالاً هاتفياً من المداوم في السفارة:

 

يريد مدير مكتب وزير العلاقات الخارجية فرنسوا شير أن يراه حالاً... في الساعة 19 ونصف، قصد على الفور الكيه دورسيه، فقدم له شير من دون أن يبتسم، ورقة عليها قائمة أسماء: أسماء 47 مواطناً سوفياتياً يقطنون في باريس، وهم ديبلوماسيون تتهمهم الحكومة الفرنسية بالقيام بنشاطات مناقضة لوضعهم القانوني، وتدعوهم إلى مغادرة باريس في غضون ثمانية أيام. أصيب أفاناسيافسكي بالذهول. شير الذي يعرفه جيداً لم يكن يمزح. سبعة وأربعون شخصاً؟ اغتاظ السوفياتي واعترض ظاهرياً.

 

عندئذ أعطاه شير وثيقة ثانية من أربع ورقات مطبوعة باللغة الروسية... ألقى الوزير - المستشار التحية وهرع نحو السفارة الكائنة في بولفار لان حيث التقى بالسفير إيولي فورونتسوف وعميل ال كي جي جي المقيم نيكولاي تشتفاريكوف. أخطر هؤلاء الديبلوماسيون المرموقون الثلاثة الإدارات الروسية المعنية وقضوا سهرة متوترة... إذا كانت بعض فصول هذه القضية العجيبة لا تزال مجهولة، فإن نهايتها لا تقبل الشك: ففي 23 كانون الثاني 1985، في موسكو، وبأمر من رئيس ال كي جي جي فيكتور تشابريكوف، تم إعدام المقدم فلاديمير إيبوليتوفيتش فاتروف بالرصاص بتهمة الخيانة العظمى. نعم وبهدوء تم رحيل 47 دبلوماسياً برفقة زوجاتهم وأولادهم إلى موسكو!!

 

أما بطل هذه العملية فهو المهندس الاستخبارّي الروسيّ فلاديمير إيبوليتوفيتش فاتروف، الملحق التجاري في فرنسا بين 1965 و 1970، في زمن الاختلاف الاستراتيجيّ بين فرنسا – الجنرال شارل ديغول وحلف شمال الأطلسي، وقد أقام وقتذاك علاقة ثلاثية وطيدة مع رايمون نارت مفوض الشرطة التابع للمخابرات الفرنسية، والصديق المشترك المهندس البارع ورجل الأعمال في قطاع الاتصالات جاك بريفو!! وقويت العلاقة لاحقاً مع زيارات بريفو إلى موسكو واللقاءات العديدة مع فاتروف.

 

ومرّت السنون، واستغاث فاتروف بالفرنسيين بواسطة بريفو ونارت... وكانت المفاجأة الصاعقة : من قلب موسكو، وبواسطة خبراء استخباريين مختصين، فاتروف يرسل إلى باريس صوراً عن ملفات هائلة تختص بمجالات عمل الاستخبارات السوفياتية... أشرف الرئيس فرنسوا ميتران على العملية، وقدّم خلاصة هذا الملف الدسم إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان ونائبه جورج بوش، بما يفضح شبكات التجسس السوفياتية في الولايات المتحدة الأميركية... وتوثّقت العلاقة بين المخابرات الفرنسية والأميركية في مجال رصد نشاطات ال كي جي بي!! حتى توقّف فاتروف عن تسليم الأسرار الاستخبارية استنادًا إلى شجار عنيف بينه وبين عشيقته ليودميلا أوتشكينا المترجمة في ال كي جي بي والتي كانت تعيره الملفات التي صوّرها، ولم تكن لتعلم بتداعيات عملية فايرويل...

 

هذا الشجار العاطفيّ، وما تبعه من تعدّي فاتروف على عابر سبيل، تدخّل لإنهاء الشجار، فضربه فاتروف حتى الموت!! ممّا لفت أعين ال كي جي بي دون أن تستطيع حسم أبعاد القضية، لكن عملية طرد الديبلوماسيين السوفيات، فتحت العين بقوّة على فاتروف!! لقد قرر فلاديمير فاتروف ضرب جهاز الكي جي بي في الصميم... ولكن هل كان وحيداً في صياغة مخططه الاستراتيجيّ، وتنفيذه؟!"

 

من مقالتي العلمية: الحرب الباردة تمتدّ والمواجهات الاستخباريّة تشتدّ (1975-1990)، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 86، نيسان 2021، ص 138، 139، 140.

theme::common.loader_icon