الفنان حسن جوني.. لوحاته تحاكي الإنسان وقيمتها ارتفعت آلاف المرات!
الفنان حسن جوني.. لوحاته تحاكي الإنسان وقيمتها ارتفعت آلاف المرات!
منير الحافي
Friday, 10-Jun-2022 06:40

أشعر بهواء بيروت، وأشتم رائحة الياسمين، كلما زرتُ مرسم الفنان حسن جوني، الملاصق لمنارة العاصمة التاريخية في رأس بيروت، التي أخفَتها البنايات الشاهقة، لكنها لن تستطيع أن تمحوها من ذاكرتنا وذاكرة كل باخرة أو مركب مَرّ في البحر، وكانت المنارة تدلّه: ها قد وصلت إلى بيروت!

وكما بيروت كبيرة.. كبيرة في حقيقتها وعيوننا، كذلك حسن جوني. الرسام التشكيلي ذو الأصول الجنوبية (أصل عائلته من جون في الشوف ثم انتقل جده الأكبر إلى رومين قرب مغدوشة، ثم نزح جده من رومين إلى وسط بيروت وسكن قرب مقر الأسكوا الآن) أحبّ بيروت بشغف فرَسمها في مئات اللوحات! رسم عين المريسة وزقاق البلاط والمصيطبة والزيدانية والأشرفية وكل حَي من أحيائها من ذاكرته المعمّرة. فإذا زرت عين المريسة مثلاً فأنت تتذكر جوني والعكس صحيح. إذا رأيت ما تبقى من بيوت القرميد الصامدة في بيروت تذكّرت جوني.


في الشهر المقبل، ١٤ تموز، يصير عمر جوني واحداً وثمانين عاماً. وجوني، هو خريج الأكاديمية الملكية العليا للفنون الجميلة في مدريد (تسمّى سان فرناندو تكريماً لهذا القديس) كانت مكاناً لدراسته وتخرّج منها أيضاً كبار الفنانين الإسبان والعالميين أمثال: سالفادور دالي (الفنان السوريالي العظيم) وبيكاسو وخوان ميرو وخوان غري، وهم من أهمّ رواد الحركة التشكيلية التي غيّرت في مسار الفن في العالم. ومن أهم فناني العالم التعبيريين الإسبان هو فرنسيسكو غويا. وعندما أراد غويا أن يدرّس في هذه الأكاديمية، طلب القيّمون عليها منه أن يجري امتحاناً كي يقبل مدرساً في الأكاديمية. فهذه المدرسة كانت على جانب عظيم من التعقيد من حيث انتظامها بالتدريس الكلاسيكي الواقعي في كل سنوات الدراسة وموادها. سواء أكانت العملية أم النظرية. وإذا كان قبول الأستاذ على هذا المنوال فكيف الطلاب؟ يقول جوني: «فور وصولي إلى إسبانيا في حزيران العام ١٩٦٤ طُلب مني في الأكاديمية أن أخضع لتدريب. فأوضحت لهم أنني طالب متخرّج من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة. أجابوا: عندما تدخل الأكاديمية الخاصة التي تعد الطلاب لامتحانات الدخول للأكاديمية الملكية، عندها تعرف ماذا درستَ سابقاً. أنت تحدد نفسك بنفسك». عند دخول الدروس التحضيرية إذاً، وجد جوني نفسه يُجري امتحانات فائقة الصعوبة ومدتها ١٥ يوماً، ويقضي كل يوم ٣ ساعات ونصف الساعة. كان مطلوباً من كل طالب أن يرسم موضوعاً واحداً على قياس متر بسبعين سنتمتراً. ولم يكن مسموحاً له إلا أن يحمل قطعة قماش وقطعة فحم! لم تكن الممحاة مسموحة إطلاقاً. وبعد ١٥ يوماً يتعرّض هذا العمل للجنة فاحصة. ويذكر جوني أنّ عدد الطلاب المقدمين للدخول كان ٤٨٢ من إسبانيا وأنحاء العالم، نجح منهم ٣٨ تلميذاً فقط. ليس هذا فحسب، بل كان مطلوباً من طالب الأكاديمية أن يخضع لمسابقة في الثقافة وتحديداً في اللوتيرجيا (أي خدمة الصلوات المسيحية). في ذلك الوقت كان الإسبان ما زالوا متعلقين بالكثلكة، فكان على الطلاب أن يخضعوا لمسابقة لتقييم فَهمهم لعلم اللاهوت المسيحي. لكنّ جوني أُعفي من هذه المسابقة بالذات كونه مسلماً. بقي جوني في إسبانيا ٦ سنوات ونصف السنة. بدأ من السنة التحضيرية، وأنهى دروسه في العام ١٩٧٠ متخرجاً بلقب «أستاذ» أي بروفسور في الفنون الجميلة. وبقي يتردد إلى البلاد الجميلة التي احترمها وكرّمته، وحصل في العام ١٩٨٢على إجازة ماجيستير في «علم الجمال الفني» من مدريد مجدداً وموضوع رسالته «الفن الإسلامي المقارن في القرن ١٣ في العراق وإيران وتركيا».
قبل ذلك في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (الألبا) في لبنان، كان جوني قد درس الفن على يد أستاذ الرسم نقولا النمار، وناديا صيقلي التي كانت تعلمه الألوان، وزافين هاديشيان الذي كان يعلّم الصبّ والنحت، والفرنسي روجيه كارون الذي كان يعلّمه علم التشريح. ومن زملاء جوني في الدراسة النحات أنطوان برباري. وما حدث، أن فاز كلّ من جوني وبرباري بمنحة الدولة للدراسة في الخارج. برباري لدراسة النحت في فرنسا، وجوني لدراسة الرسم في إسبانيا.


إلى إسبانيا، غادر جوني عبر الباخرة لأنه يهاب السفر بالطائرة ولأن التذكرة كانت بمئة وخمسين ليرة أي أرخص من كلفة الطائرة. إستغرق الوصول إلى وجهته ٧ أيام. وارتاحت الباخرة في الإسكندرية ونابولي وجنوى ومرسيليا وأخيراً في برشلونة. على متن الباخرة نفسها تعرّف جوني إلى الفنان السوري الكبير فاتح المدرّس الذي كان متوجهاً نحو إيطاليا حيث درس الفن.


ذهب جوني إلى فالنسيا. في اليوم التالي وهو «ممتلىء بهذه (الأنا) كفنان متخرّج من الأكاديمية اللبنانية»، قصد فوراً متحف الفنون الجميلة ليقف أمام أول لوحة صادَفته! «كنتُ أشعر أنني فنان كبير جداً واللوحة المعلقة للفنان أمامي صغيرة جداً». ولكن بعد نصف ساعة فقط تغيّر كل شيء! شعر جوني أنه «فنان صغير ويجب أن أتعلم أكثر بكثير كي أصير قادراً على رسم مثل هذه اللوحة المعلقة أمامي». يذكر أن اسم الفنان هو إيغناسيو زولواغا، ومساحة لوحته ١٣٠ سم بمتر. وموضوعها: معركة ذئاب على الثلج. كانت لوحة فائقة التعبير مَسّت الفنان اللبناني من داخله. عندما دخل جوني إلى مكتب المدير الذي يُعدّه لامتحانات الدخول بادَره بالقول: «إذا اردتَ أن تبقى في إسبانيا، يجب أن ترسم كما رسم فيلاسكيز وهو «أمير الرسم» في كل الحقبات من عصر النهضة حتى يومنا هذا».


بمَن تأثر جوني؟
كان عندي تأثّر نفسي أكثر من كونه فنياً، لأن كل فنان عنده مخزونه الخيالي. أهم فنّانَين أثّرا في نفس جوني تأثيراً عظيماً هما دييغو فيلاسكيز وفرنسيسكو غويا. وروى لي أنّ غويا تأثّر أيضاً بفيلاسكيز، لدرجة أنه نسخَ عنه لوحة ورسمها كما هي. ففي إسبانيا هناك عُرف أنه إذا تأثر الفنان بفنان آخر، فإنه تكريماً لهذا الفنان الأستاذ، كان التلميذ ينسخ لوحة لأستاذه. وهل فعل جوني ذلك؟ نعم. تأثّر بلوحة لفنان إيطالي. وما حصل أنه في العام ١٩٧١ سافر إلى روما لدراسة المتاحف لمدة شهرين (بعدها إلى باريس شهرين إضافيين) فتأثر بهذا الفنان الإيطالي المجهول، ونسخ له لوحة ما زال يحتفظ بها جوني حتى الآن.


يذكر أنه شاهدَ في اللوفر لوحة للفنان الفرنسي كروس «لن أنساها ما حَييت». وهي لوحة تمثّل نابوليون بونابرت يزور مرضى السل في عكا. أب يحتضن ابنه الذي يحتضر ويقدمه لنابوليون. و»ما أدهَشني أن نابوليون بكل عظمته العسكرية تحوّل بلحظة إلى إنسان هادئ ودافئ ومتعاطف مع هذا الوالد ومع هذا الابن الذي لن يقوى على الوقوف». هذه اللمحة الإنسانية ما زالت محفورة في ذاكرة جوني حتى اليوم. ولا يزال يذكر لوحة أخرى للفنان الفرنسي الكبير دو لاكروا التي تمثّل مجموعة بحّارة ضَلوا الطريق في عاصفة هوجاء في البحر وصاروا يطلبون النجدة. «تشعر بصراع البقاء عند الإنسان بين فَكّي الموت: الموج من تحتهم والريح من فوقهم». من ذلك الحين، يقول جوني إنه ليس ميّالاً إلى الفن إذا لم يكن يوصل إلى الإنسان ومنه.


رسمَ جوني مئات اللوحات التي تحكي عن الإنسان، عن الناس، والمدينة، والمجموعة، والطبيعة اللبنانية. لوحاته دخلت البيوت والمتاحف. اقتُنيت، وأُهديت إلى كبار. من محبّي فن جوني الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان دائماً يأخذ معه في سفره ثلاث لوحات هدايا: واحدة كبيرة للرئيس، وأصغر لرئيس الوزراء، والصغرى لوزير الخارجية. كما اقتنى منه المئات من محبّي الفن اللبناني في لبنان والخارج.
يقول: «بدأتُ الرسم من عمر ٨ سنوات، ووهبتُ نفسي للفن من عام ١٩٥٨ حتى الساعة وأعتبر أن حقيقة حياتي هي أن أرسم».


لوحات جوني، لا يمكن تقدير سعرها في السوق اليوم. وأصلاً فإنّ قيمة الفن عالية جداً بحسب جوني. يقول إن كل فنان «أصيل» مهما طلب سعر لوحته فإنه ليس السعر الحقيقي للوحة. فما من لوحة بيعَت في زمن إلا وتغيّر ثمنها مع الزمن إلى آلاف الأضعاف التي دُفعت للفنان في تلك المرحلة. لذلك لم يقل جوني لأيّ سائل: «هذا ثمن لوحتي» بل يقول: «هذا ثمن حاجتي». ولماذا يرتفع سعر اللوحة؟ يجيب جوني: يرتفع سعر أي لوحة حقيقية بمقدار غناها واستمرارية حوارها مع المتلقّي. فاللوحة هي عبارة عن إنسان متكلم. هذه اللغة الصامتة لا يسمعها إلا المتلقي الذي يُدرك قيمة هذا الحوار المسموع، بينه وبين اللوحة. فدائماً اللوحة تكون على قيد الحياة ما دامت «تخبر» المتلقّي وتحكي معه. يتوقف هذا «الإخبار» لسببين: إمّا اللوحة تكون قد تلِفت تقنياً، فانهارت بنيتها كألوان وقماش، أو أنّ المتلقي فقد قيمة الحوار والتواصل مع اللوحة.
لذلك، فإنّ القيمة المادية والمعنوية للوحة يحددها المتلقي بمقدار ما هي تتعاطى معه ويتعاطى معها.


لوحة جوني اليوم لها قيمة مالية كبيرة مثل «سند» أو صك، إضافة إلى كونها قيمة معنوية. يتذكّر أول سعر وضعه للوحته في أول معرض أقامَه في العام ١٩٧١. كان ثمن اللوحة بقياس ١٠٠ سم x ١١٠: ٣٥٠ ليرة. اليوم سعر اللوحة لجوني بنفس القياس ثمنه ١٢ ألف دولار! فكم في الإثني عشر ألف دولار ، ٣٥٠ ليرة؟


كتب جوني على بابه نصاً كي يفهمه «الجميع» بحسب تعبيره: «أنا رسمتُ لوحتي كفنان وقدمتها لكم كنبيّ». ويشرح أن ليس عنده جَور الفنان الذي يقول إمّا أن تدفع ثمن لوحتي كذا أو لا أعطيك إيّاها. «أحياناً تغلبني لهفة الشخص الذي يريد اقتناء لوحتي ولا يملك ثمنها. عندها اتنازل كثيراً لأنني أعرف سواء بعتُ هذه اللوحة أم لا فأنا حيٌ وعائش، ولكنّي أكون قد أسأتُ إلى هذا السائِل عن لوحتي وجَرحته أخلاقياً وجمالياً، بأنني حرمته من أن يقتني هذه اللوحة ويتأملها». هل يستطيع جوني اليوم أن يشتري لوحاته التي رسمها بنفسها وباعها؟ يجيب: لا. لم أعد أستطيع. وأيّ فنان لا يستطيع أن يعود ويشتري لوحاته. عنده ضغوط الحياة اليومية والأسرية والوضع الاقتصادي والحيّز المجتمعي الذي نعيشه وخوفنا من المجهول على أنفسنا وعائلاتنا، كل هذا «يدفعني إلى الرسم كي أُبعد أحبائي عن العوز». ما من فنان أصيل إلا ويخاف من أن يمدّ يده طالباً المعونة من أحد. يؤكد جوني أنه كان يشتري من فنانين متعثّرين كانوا غير قادرين على تسويق أعمالهم. كان يذهب ويختار لوحة ويدفع ثمنها ويأخذها. لا بل كان يروّج لهذا الفنان لدى أصدقاء جوني بأن يشجّعهم على الشراء والاقتناء من هذا الفنان. فعندما يشتري جوني، يشتري الآخرون.


لمن يقتني جوني من الفنانين اليوم؟ لا أسماء محددة. لكن يقتني لوحات حيث فيها الإنسان في ذروة انفعالاته النفسية والروحية. لأنّ جوني لا يملك عيناً «زخرفية» بل إن عينه إنسانية. يرسم جوني لتاريخه لأن الفنان هو مؤرّخ العصر عبر لوحاته ليكون شاهداً حقيقياً على المرحلة التي عاشها. كما يكون في حياته شيء من التزييف إن هو عاش في زمن، ورسم لزمنٍ آخر ولمكان آخر! يؤكد أن لوحاته تعبّر عن التاريخ المرئي لبيروت المنسية. يبدأ جوني لوحاته بالرسم الواقعي، ويلوّن بطريقة التجريد. فيكون العمل تعبيرياً-تجريدياً. وتكون اللوحة مقروءة (واقعاً) ومحسوسة (تجريداً). مَن يشاهد أو يقتني لوحات جوني، يعرف عمّا نتحدث.


جوني لم يقل في جلستنا الطويلة كل ما عنده طبعاً. وعَدني بلقاءات مقبلة مع المزيد من التاريخ وحكايات عن بيروت وشوارعها وأزقتها. والمزيد من المواقف الإنسانية والاجتماعية.. والاقتصادية.

theme::common.loader_icon