من تجربة شخصية: الفن التشكيلي اللبناني.. ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها!
من تجربة شخصية: الفن التشكيلي اللبناني.. ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها!
منير الحافي
Thursday, 19-May-2022 06:40

في أول مقال لي بعد الإنتخابات البرلمانية في لبنان، سأكتب عن موضوع يشغلني منذ مدة، وفَضّلت الكلام عنه الآن، لاعتقادي أنه حان الوقت لذلك. سأكتب عن الفن (التشكيلي) في لبنان وأهميته وانعكاس تطوره على تحسين الإقتصاد اللبناني المنهار.

 

من تجربة شخصية، خضتُ غمار معرفة الفن (التشكيلي) منذ تشرين الأول - ٢٠٢٠ عندما دعاني صديق لي للغداء معه في أحد مطاعم العاصمة. هذا الرجل اللبناني كان يعيش في دبي وقبلها في لندن على مدى أكثر من ٣٠ عاماً لكنه عاد إلى لبنان مثل العديد من أهل البلد الذين رأوا ضرورة لعودتهم إلى وطنهم ومساهمتهم في نهضته، وربما لتعبهم من العيش في الغربة. المهم، أنه طرح عليّ بصفتي صديقه أولاً وبصفتي الإعلامية ثانياً، مشروعَه بدعم الفن في لبنان. وشرح لي باختصار شديد يومها، وقد أصابني الذهول والحيرة، أنه سيتمكّن خلال وقت قصير نسبياً من اقتناء (وليس شراء لأنّ الشراء للتجار أما الاقتناء فلمحبّي الفنّ!) عدد كبير من اللوحات الفنية وعرضها في مكان مميز. فأما اللوحات فيجب أن تكون لفنانين لبنانيين، وأما مكان الإقتناء فهو بيت الرجل نفسه. وطلب مني صاحبي أن «أنسى السياسة قليلاً» بعد عملي مع تلفزيون المستقبل لحوالى ٢٧ عاماً، وأتفرّغ لأعمل مستشاراً إعلامياً للمشروع الوليد. ووسط سؤالي عن العمل قال يومها: العمل سَيدلّك.

 

بابتسامة كبيرة قابلتُ اقتراح العمل مع صديقي. لكنني قبلت التحدّي. ليس تحدّيه لأنه كان مؤمناً بالنتائج، وإنما تحدّي نفسي بمعرفة الفنّ وأنا الآتي من خلفية سياسية في الإعلام المرئي والمسموع.

 

وقت الكورونا القاتل والطويل والبطيء، ساعدني على القراءة والإطلاع على الفن وتاريخه، وعلى معرفة الفن اللبناني. إكتشفتُ أن الفن موجود في كل واحد منّا مثل الموسيقى. ويبقى أن تترك نفسك لهواها في محبة أنواع الفن. فتكتشف مثلاً أنك تحبّ رسوم الطبيعة أو الرمزية أو التصويرية أو التجريد. وما ساعدني أنّ والدي الحبيب رحمه الله كان يرسم من دون تعلّم الفن. وأنني بالأصل محبّ للموسيقى وعاشق للطرب الأصيل. الموسيقى والفن كانا فيّ، ومن هنا انطلقتُ بمشروع تعلّم الفن. يومياً تعلمنا، صديقي صاحب المشروع وأنا، على كيفية اقتناء الفن (هو) وكيفية التواصل مع الفنانين وتعريفهم إلى الناس (أنا مع فريق متعاون).

 

بعد سنة ونيف من العمل في هذا المجال، استطاع مشروعنا أن يضمّ ٣٨ فناناً وفنانة نتعاون معهم، بشراء لوحاتهم، من دون احتكار. توصلت مبادرتنا إلى أن تعمل شبكة تزيد عن ١٥٠ رجلاً وسيدة من مقتني الأعمال الفنية، يملكون أكثر من عشرين ألف لوحة وعمل فني لبناني. والجميل في الموضوع تنوّع اختصاص حافظي الفن، من أطباء ومهندسين ومتعهدين ورجال أعمال ورواد أعمال وإداريين وأساتذة جامعات وغيرهم. كما أن الفنانين أنفسهم، يقتنون أعمال بعضهم البعض. وهذا منتهى الثقة والحضارة والذوق والتنوع. والطريف أنّ هناك من بدأ اقتناء الفن منذ ٣٠ عاماً وآخرين منذ ٣ سنوات، فيما البعض الآخر بدأ باقتناء الفن الآن. وهذا ما نشجّع عليه. ولا شك أنّ اقتناء الفن ليس سببه الوحيد حب اللوحات وتقدير الأشكال والألوان، بل إن البعض ذهب لاقتناء اللوحات كبديل طبيعي عن الاستثمار التقليدي في العقار أو شراء السيارات. ولا شك أنّ صعوبة التعامل مع البنوك اللبنانية قد ساهمت بشكل كبير في ذهاب المستثمرين إلى استثمارٍ آمن و»جميل» هو الفن. أضف إلى ذلك، أنّ هؤلاء يعملون على إيجاد «اقتصاد خاص للفن» عبر عمليات البيع والشراء المباشر، وعبر عمليات المزاد العلني.

 

هل يمكن تَخيّل اجتماع ١٥٠ شخصاً من أعمار مختلفة، وأعمال مختلفة، وخلفيات مختلفة، على مبادرة واحدة هي دعم الفن والثقافة في لبنان؟ نعم.

 

في هدف المبادرة التي نقوم بها، أن يتحوّل كل بيت في لبنان إلى متحف، لا أن نزيد عدد المتاحف في لبنان. رأينا أنّ الناس في لبنان يعرفون عن بيكاسو في إسبانيا ولوحة «الموناليزا» لليوناردو ديفينشي في اللوفر في باريس. لكنهم يجهلون كلياً أسماء الفنانين اللبنانيين. لا يعرف الكثيرون عن: مصطفى فروخ وعمر أنسي وصليبا دويهي وإيلي كنعان وحسن جوني وإيتيل عدنان وجميل ملاعب وحسين ماضي وهيلين الخال ووجيه نحلة وأوغيت كالان وبول غيراغوسيان.

 

هذه عيّنة قليلة جداً من فنانين وفنانات لبنانيين لمعوا في مجالهم وساهموا في نهضة الفن اللبناني. وإذا أضفنا إليهم جيلاً آخر أدلى بدلوه في تطور الفن والثقافة، نكاد لا نُحصي عدد المبدعين في هذا المجال. شاءت ظروفي الحميدة أن ألتقي يومياً بفنانين وفنانات زادوني معرفة! وازدادت ثقافتي آفاقاً بلقائي بهم بشكل يومي أو دوري. أذكر من هؤلاء الفنانين: حسن جوني وهرير وسلوان إبراهيم وبسام كيرللس وديما رعد وسمير تماري ورؤوف رفاعي ووسام ملحم وغيرهم الكثير. وفي هذا المجال، أستطيع التأكيد أن ليس للفن دين أو طائفة، ولا اتجاه سياسي أو حزبي أو مناطقي. كذلك فإنّ عمر الفنانين ليس هو المقياس في إبداعهم. فمثلاً عُمر الفنان الشاب تميم متلج هو ٢٣ عاماً، وأعماله الفنية على قلتها، فيها إبداع فنان قد يبلغ السبعين من الخبرة.

 

ما قامت به مبادرتنا أيضاً خلال حوالى سنتين، هو إنتاج برنامج فني يتسابق فيه ٦٠ فناناً وفنانة فيما بينهم، لاختيار رابح (رابحة) في النهاية، وتقوم المؤسسة في ختام المسابقة بضَم هذا الفنان إلى فنانيها الأساسيين الذين تتعامل معهم. فتشتري المؤسسة من الفنان (ة) وتدعمه في إقامة معرض وتَقتني منه عدداً من رسوماته وتدعمه في التواصل والإعلام. بالأمس القريب انتهى الموسم الثالث من البرنامج على قناة يوتيوب واختارت اللجنة المحكمة الفنان جاد زيتوني بعد تنافس حاد على النهائي مع ٥ فنانين واعدين.

 

دعم الفن في لبنان، هدف المؤسسات التي تُعنى بهذا النوع من الثقافة. عندما يصبح الفنان (التشكيلي) اللبناني معروفاً بالاسم والصورة والأعمال، فإننا بذلك نحقق التالي (وأكثر):

- جَعل أكبر عدد من اللبنانيين يعرفون مشاهيرهم على هذا الصعيد ويقدرونهم.

- يقتني اللبنانيون أعمالاً لبنانية أصيلة.

- نُسهم بنشر الفن اللبناني في الخارج خصوصاً لدى اللبنانيين المنتشرين في أصقاع العالم من أستراليا إلى البرازيل.

- نساهم بدعم الفنان اللبناني الذي يحتاج مثل غيره من أبناء الوطن (وربما أكثر) إلى بيع لوحاته كي يَعتاش منها ويطور مرسمه وفنه.

- نكشف عن حقيقة مهمة وهي أنّ الفن اللبناني منذ أيام المؤسسين في هذا المجال، هو ثروة حقيقية مادياً ومعنوياً.

- نعمل على تطوير «اقتصاد الفن» وهو قادر على دعم الاقتصاد اللبناني المنهار. أما في لغة الأرقام، فسنكتب عنها في مقالات مقبلة.

 

لقد حان وقت الكلام عن الفن (التشكيلي). حان وقت الثقافة. حان وقت العمل على دعم الاقتصاد اللبناني عبر الفنون.

theme::common.loader_icon