

تطرح رواية المزدوج لدوستويفسكي مرض الازدواجيّة الذي يدّخر الحممَ الفائرة كالبركان الخامد، ثم يتفجّر بجنونٍ محموم في ذهن المريض، ليصبّ نيرانه المتأجّجة في قعره الساكن ويتلوّى العقل بعذاب وهميّ جامح، قد يدفع صاحبه ليتجرّد من التعقّل ويتماهى في عالم الهذيان، ويعزّز لديه نظريّة المؤامرة، فيتوهّم بأنّ الجميع يتّحدون متآلفين من أجل القضاء عليه أو الحطّ من شأنه، أو يتصبّب قهراً من أفكار خياليّة توهمه بأنّه ضحيّة وفريسة أناس مخادعين، ينكرون جدواه ويجهلون جدواه في عالم شرّير مثل هذا العالم، ويتنكّرون لعطائه ونزاهته وطيبته الفريدة.
لقد تجاوز دوستويفسكي حدود مملكته الابداعيّة وتناغم مع شبكته النفسيّة الإيحائيّة التي أقامها صلة ترابط بينه وبين القرّاء من جهة، وشخوص روايته من جهة أخرى. فنحن نعيش عالم الجنون بحناياه وخيوطه وتقاطيعه وتعرّجاته وحصاده وحرائقه وخرائطه المتعدّدة.
قد يجعلنا دوستويفسكي نعيش الجنون الفعليّ مع البطل، فتترنّح أفكارنا معه، وتتموّج أرواحنا حزناً لعذابه وشقائه، وتتضرّج بدماء غضبه وسخطه على من حوله. هذه القيادة العمياء التي يمتلك زمامها دوستويفسكي جعلت منه إماماً للمحلّلين النفسيّين الذين ينقّبون في بواطن الأمور لينجلي عنها الصدأ، ويجازفون بمصير أبطالهم حتى يعثروا على حلّ جوهري مهما بلغت ذروة صعوبته أو تشعّب مراميه.
الضحيّة والجلّاد في رواية المزدوج هما البطل نفسه السيّد غوليادكين الموظف البسيط في دائرة الحكومة، ولكنّه يشير إليه باسم غوليادكين الأكبر الذي يزخم كيانه بالخير وبنضرة مزاياه الحميدة، والى الجلّاد باسم غوليادكين الأصغر، الذي يرشح منه المكر ويتضوّع من منافذ خلاياه، ليكون جاحداً حاقداً متحفّزاً لتعميم الشرور وتشويه سمعة غوليادكين الأكبر بكلّ وجه وبأيّ صورة. فهو الوجه الآخر له وبمثابة عدوّه اللدود، وكلّ واحد منهما يتصارع من أجل القضاء على الآخر، فلا الخير يستسلم لصحوة الشر، ولا الشرّ يستهويه هجود الخير وميله للانطوائية والسلام. فيحتدم الإختلاف حتّى العظم وتتكوّر النفوس على كرهٍ دفين ومقتٍ مرير.
عالمان متضادّان يتصارعان في نفس واحدة تتراصف فيها الأوهام وتتراهن الخيالات الواهية، فيتخبّط الجنون بدوائر لا مرئية تعكسها المرايا التي يرى من خلالها غوليادكين نفسه فيخالها باتت رجلاً آخر يشبهه تمام الشبه ولكنّه يتصرّف بعنجهيّة وخداع وتزلّف ومراوغة ليكيد له كيداً عظيماً.
ينشأ العنف بين غوليادكين الأكبر وغوليادكين الأصغر، أي بين الخير والشر، بين المحبّة والكره، بين التسامح والحقد، والطهر والخطيئة في عالم النور والظلام. فيؤدّي هذا الصراع إلى العنف ويشتبك الإثنان في قتال حامٍ بغيض، ليجد غوليادكين الأكبر نفسه في النهاية منساقاً بين الرجال بقيادة طبيبه الخاص لإيداعه في مركز صحيّ، بإيحاءٍ رمزيّ من دون توضيح من الكاتب لمعاناته من مرضٍ شتّت عقله وشتّتنا معه لنصدّق أحياناً من خلال السرد بأنّ غوليادكين الأصغر هو فعلاً حقيقي وموجود، وليغمز لنا في النهاية بالسرّ العظيم.
وربّما استوحى دوستويفسكي هذه الرواية من معاناته الشخصيّة مع مرض الصرع الذي لازمه طيلة حياته وعانى في سبيله الأمرّين، وقد قال فرويد الذي تأثّر بأسلوب الروائي العظيم وقدرته الخارقة على التوغّل في ثقوب النفوس البشريّة وشبّه إبداعه بعبقرية شكسبير: «إنّ دوستويفسكي يعتبر نفسه ذا صرع، كما ان الناس كانوا يرونه كذلك نظراً لنوبات الصرع الحادة التي كانت تأتي لديه مصحوبة بغياب الشعور، اضافة الى تصلبات عضلية يتبعها هبوط. أصبح من المحتمل أكثر انّ ما كان يسمّى صرعاً لدى فرويد، لم يكن إلا عرضاً من أعراض عُصابه، وينبغي أن يشخص تبعاً لذلك بأنه عصاب هستيري، أي انه هستيريا حادة».
هذه الملحمة النفسيّة التي تجمهرت في نفس بطل رواية «المزدوج»، تجاوزت حدود الهلوسة لتلامس تخوم البله، فعالم غوليادكين الخيالي ليس مهجوراً وقاحلاً ويسوده القحط والجفاف فقط، إنّما تحيق به الإثارة ونظرية التآمر التي يتشارك فيها بحسب رأيه جميع معارفه ورفاقه، ليكون محور الإهتمام والقرارات والإنتقادات والإنتقام، ويُصَبّ جلّ انتباه الآخرين على مصيره وقدره، وهو يتخبّط حائراً في دائرة الشكوك بلا يد تمتدّ له في وسط الظلام الحالك لتنتشله من داخل البئر، وبلا سند أو عضد.
لقد تأثّر دوستويفسكي بشخصيّة غوليادكين وتقمّصها حتّى أنّه أصبح يوقّع اسمه على رسائله الموجّهة لأخيه ميشيل، وتعمّق في دراسة نفسيّته كأنّه يشخّص حاله مرضيّة تستحوذ على كلّ تفكيره وإرادته، وقد أعاد كتابة الرواية بعد سنوات من نشرها بسبب الإنتقادات الهائلة التي تصدّت لها عند صدورها، والسخريّة الشرسة عليها من قبل بعض الأدباء، ربّما كونه لم يحترس لمراعاة سير الشخصيّة في السرد من دون تعريضها للملل، فقد أكثر من الدلالات الوصفيّة والحوارات المتكرّرة، والتفاصيل الدقيقة، وتقبّل منها الإنزلاقات التي قادته للإكثار من التنويه والتبرير والتعبير، ولم يضف إلى الميراث الفنّي للرواية ميزة جديدة كعادته في أعماله سوى من خلال تجسيد مرض الإزدواجيّة بشكلٍ أكثر دقّة، مع أنّ إبداعه تجاوز في رواياته الأخرى مراحل الفن ليصل إلى ذروة التألّق والتحليق في دراسة النفس وتجسيد مراحل قوّتها وضعفها.
وقد ذهب توصيف بعض الأدباء له إلى رَفعه لمرتبة الأنبياء كما فعل هيرمان هيسه، وتأثّر أهمّ علماء النفس بتحليله النفسيّ المعمّق للشخصيّات الإنسانيّة، وفي مقدّمتهم سيغموند فرويد وجوردان بيترسون.
دوستويفسكي محلّل نفسيّ يوازي إبداعه فنّه الأدبيّ، وقد كان وسيظلّ الشريان الرئيسيّ المحرّك للتنقيب في أعماق الأرواح الضالّة.








