

من المعروف أنّ قصصَ الكاتب الأميركي ستيفن كينغ تجنح للإثارة والتشويق والقليل من الرّعب، ليستحوذَ بها على المخيّلة الباطنيّة لخيال المتلقّي، ويأخذه رغماً عن إرادته إلى حيّزٍ بعيد المدى وثلاثيّ الأبعاد على شكل هرم، كلّ زاوية ترتبط بقياس الأخرى من حيث السرد والعرض والتفسير، فتأتي الحبكة متمرّدة على التقليد، شاملة لا تتقيّد بالترسيم والتحديد، فينجح في الإحاطة بجوانب الخفايا المتربّصة في المغزى العام، وتظلّ حيّة لا تعرف طور النزاع ولا تدخل في دوّامة الصراع كما يحدث للكثير من الروايات غير المتقنة.
في كتابه "إن كان ينزف" الذي يتضمّن عدّة قصص، تتمحور حكاية "هاتف السيّد هاريغان" حول ذكريات رجل مع هاتف الأيفون، وذلك بسبب الأحداث المرعبة التي تعرّض لها بسببه.
كان كريغ يقرأ ذات يوم عندما كان صغيراً في الكنيسة أمام "الموقّر" جزءاً من فصل صموئيل، لينال حينذاك صوته استحسان السيد هاريغان العجوز الثريّ وهو أحد أغنى رجال أميركا، الذي انتقل للعيش في هارلو رغم طابعها القرويّ البسيط لسببٍ ظلّ مجهولاً للجميع، وإذا به في اليوم التالي يقرع الباب ليطلب من والد الطفل توظيفه ليقرأ له بصوته الجميل، على أن يدفع له خمسة دولارات في الساعة، وتبلغ ساعات العمل عنده ثلاث ساعات في الأسبوع بالإضافة إلى ثلاث ساعات أخرى يخصّصها للاعتناء بالحديقة وإزالة الثلج عن درجه ونفض الغبار.
يوافق والده على العرض ربّما كي يخرج طفله من هشيم الوحدة الذي أجّجه الحنين بعد وفاة أمّه، وحتّى يشعر بالسعادة وهو يكسب المال بتعبه. وقد سُرَّ الولد بالعمل لدى الرجل العجوز رغم تقتيره وبخله الشديد، واعتبره بمثابة جدّه، وكان الأخير يرسل له بطاقات معايدة في كلّ المناسبات ومعها تذاكر مدفوعة للحظ والربح، وقد فاز الولد بمبلغ كبير في احدى المرّات فداهَمه فرح عامر وابتاع هاتفاً محمولاً للسيد هاريغان امتناناً وشكراً له، ولكن العجوز كان ممن يناصبون العداء للهواتف النقّالة التي بدأت تنتشر انتشاراً موفوراً، وكل ما يتعلّق بالتكنولوجيا التي يراها مبعث التلهّي، وبعد جهد كبير أقنعه كريغ بقيمته وأهميّته وفائدته له كرجل أعمال ناجح في تتبّع البورصة وحماية أسهمه.
يتعلّق السيد هاريغان بالهاتف بعد فترة قصيرة من الزمن ليصبح شاغله الأوحد، وبعد خمس سنوات قضاها كريغ في العمل المخلص معه يكتشف ذات نهار رحيله المأساوي، بعد أن يدخل عليه في غرفة الجلوس كالعادة ليقرأ له، فيتعثّر بصره به وهو يجلس ساكناً على كرسيه وهاتفه الآيفون الى جانبه على المنضدة وقد تدلّت إحدى يديه بين رجليه واحتضنته غمرات الردى في رقصة الموت الأخيرة.
كانت جنازة السيد هاريغان كبيرة وحافلة بالشخصيات العامة والهامّة، وقد أراد كريغ أن يودّعه بطريقة مميّزة، فيقوم خلسة بدسّ هاتف الأيفون ويخبّئه في جيب سترته الداخلي فبل دفن النعش، لأنّه كان دوماً حريصاً على أن يؤكّد له بأنّ الهاتف كان ونيساً له عندما يستعصي عليه النوم ليلاً.
يكتشف كريغ أنّ السيد هاريغان قد خصّه بمبلغ كبير من المال لمتابعة تحصيله العلمي، ولكنّه يتفاجأ بسلسلة معقّدة من الأحداث بعد موت العجوز، فقد اشتاق له ذات ليلة ضبابيّة حزينة وقام بالاتصال به، ليتفاجأ بأنّ الهاتف يرنّ تحت التراب ويجيب صوت العجوز المسجّل على الآلة مبحوحاً يرشقه بالرؤى والذكريات والظلال الغابرة، فيترك له رسالة يعبّر فيها عن اشتياقه له. في الصباح يتجمّد الدم في عروقه بعد أن يتلقّى رسالة نصيّة من هاتف العجوز تحمل حروفاً غريبة.. يسرع إلى والده متحيّراً مذعوراً فيطمئنه الأخير بأنّ هذا دليل على أنّ هناك من وصل إلى هاتف العجوز واستنسخه وقرّر أن يؤدّي مقلباً سخيفاً عليه، يذهب الولد بنفسه إلى المقبرة ويقوم بالاتصال مجدّداً بالعجوز ويصغي بانتباه فيسمع رنّة الهاتف الخافتة تأتيه من تحت التراب.
يواصل كريغ حياته آملاً في نسيان هذا الموقف، وينتقل إلى مدرسة جديدة بعد أن يدخل المرحلة المتوسّطة من العلم فيعترضه ولدٌ قبيح الشكل ضخم الجثّة ويبدأ بالتنمّر عليه كي يخضعه لسيطرته. ورغم محاولة كريغ الابتعاد عن الصخب والمشاكل، وإصابة التقتير في الكلام والاختصار في التصرّف، تزداد مشاكسة الولد لتبلغ حدّتها حين يقوم بضربه ضرباً مبرحاً وتهرع معلّمته للدفاع عنه، وحين يعود إلى منزله يتّصل بهاتف السيّد هاريغان ولصدمته يرنّ الهاتف بعد عام كامل من موت الرجل، فيترك له رسالة يبثّ فيها شجونه وهمومه للرجل العجوز الميّت، ويخبره عمّا فعله الولد الشرّير، وللمفاجأة يموت هذا الولد بعد يومين فقط منتحراً، ممّا يجعل كريغ يتساءل عن دور السيّد هاريغان في المسألة، فهل ظهر عليه شبحه وسيطر عليه بمنجل الموت بضرباته اللاسعة؟
بعد مرور سنوات يتخرّج كريغ ويشتري هاتفاً نقّالاً جديداً محتفظاً بهاتفه الأيفون القديم، ويعمل صحفيّاً في جريدة محليّة، ويسمع ذات يوم مشؤوم بوفاة مدرّسته السابقة وزوجها من خلال حادث اصطدام بسيّارة يقودها أحد الأثرياء الشبّان الذين يمتلكون تاريخاً حافلاً من الشقاق والجرائم الصغيرة بسبب السكر المفرط والاستهتار بأرواح الآخرين.
يستشيط غيظاً، فقد كانت للمعلّمة الطيّبة معه ذكريات إنسانيّة جميلة، وقلب ولوع بالعطاء والمحبّة، وممّا زاد من حدّة غيظه وتألّمه، أنّ الرجل بسبب صلاته النافذة وقوّة مركز والده يحصل على حكم البراءة، فيتّصل بهاتف السيّد هاريغان ويشكو له المصاب الأليم.
بعد يومين يقرأ خبر موت الشاب السكّير انتحاراً في الصحف، ويقرّ في نفسه هذه المرّة بأنّ للسيد هاريغان دوراً مفصليّاً في القصّة، فقد رفع قبضة القدر من أحشاء الأرض في سحرٍ قاتم متصاعد يصبّ لعناته على كلّ من يحاول إتيان الشرّ محقّقاً جزءاً من العدالة الضائعة بين السماء والتراب.
ستيفن كينغ كاتبٌ برجوازيٌّ في طريقة عرضه لمسار الأحداث، يتلمّس طريق السرد بعظمة وكبرياء، محاطاً بأبطال قصصه الذين يتلمّسون خطاهم تحت سيطرته التي تعلّل العوامل الخفيّة للسيكولوجيا الذهنيّة بشكلٍ مفرط الوضوح، وقد جاءت حبكته مزيجاً من الإثارة والرّعب والجريمة والحساب والعقاب.








