خلاص لبنان في ظلّ المتغيّرات الكبيرة
خلاص لبنان في ظلّ المتغيّرات الكبيرة
شربل بو مارون

رئيس مركز المشرق للدراسات والأبحاث

Friday, 24-Dec-2021 06:55

من بين أصناف الأرز الأربعة الموجودة في العالم، يوجد صنف يُطلق عليه إسم «سيدروس ديودورا»، وهذا الإسم باللغة السنسكريتية يعني الأرز المقدّس. الموطن الأصلي لهذا الأرز هو جبال الهيمالايا في الهند وأفغانستان والنيبال. يقول العلم، انّ هذا الأرز هو صنف متحوّل من الـ"سيدروس ليباني" أرز الرب الصنف الأقدم في العالم، حيث يعود تاريخه الى العصر الجليدي الرابع وموطنه الأصلي «جبل لبنان». ويبدو انّ ارز الرب اينما حلّ، يبقى عصياً على الدهر والطغاة، من جبل لبنان الى جبال الهيمالايا.

كل الأنظار الجيوسياسيّة متجّهة اليوم صوب الشّرق، وتعتبر أنّ الخلاص سيأتي من هناك، لإراحة شعوب العالم من «غطرسة» الغرب. غير أنّ الشّرق الأقصى مليء بالعمالقة. وهنا سنستعرض إذا كانت الصّين حقاً هي قبلة شعوب العالم، ولا سيّما منها أبناء الشّرق الأدنى، أم انّ الهند ممكن أن تكون العملاق النائم الذي لم يستيقظ بعد، وما هو دورها المستقبلي في لبنان؟

 

تمتعت الصين والهند بعلاقات سلمية تاريخياً منذ آلاف السنين. فالعلاقات الثقافية والاقتصادية بينهما تعود إلى العصور القديمة. فلم يكن طريق الحرير بمثابة طريق تجاري رئيسي وحسب، بل كان له الفضل أيضًا في تسهيل انتشار البوذية في شرق آسيا. وخلال القرن التاسع عشر، كانت الصين منخرطة في تجارة الأفيون المتنامية مع شركة الهند الشرقية، وخلال الحرب العالمية الثانية، لعب البلدان دورًا حاسمًا في وقف تقدّم اليابان.

 

غير أنّ طبيعة العلاقة بينهما اختلفت مع صعود الحزب الشيوعي الى الحكم في الصين. فقد سعى البلدان بداية إلى زيادة التعاون الاقتصادي بينهما، غير أنّ العديد من النزاعات الحدودية والقومية الاقتصادية والعلاقة مع دول الجوار، بالإضافة الى العلاقة مع روسيا والولايات المتحدة، حوّلتا العلاقة بينهما من تعاون تام الى تنافس حاد. بداية من اختلال الميزان التجاري الهندي لمصلحة الصين، مروراً بفشل حل النزاع الحدودي القائم، خصوصاً في الهيمالايا. بالإضافة إلى حذر الهند من العلاقات الثنائية الاستراتيجية القوية بين الصين وباكستان، وتمويل الصين للجماعات الانفصالية في شمال شرق الهند، بينما أعربت الصين عن مخاوفها في شأن الأنشطة العسكرية والاقتصادية الهندية في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه.

 

لطالما كانت المناطق المرتفعة والجبال نعمة ونقمة. فهي نعمة للشعوب التائقة للحرّية والباحثة عن الإستقلال. وقد شكّلت هذه المناطق معاقل دائمة للحركات الثوريّة والإنفصاليّة، نظرًا لصعوبة مراقبتها، ولوعورة طرقها، وافتقار الدّول اجمالاً للوسائل اللوجيستيّة لتطويعها، وهي نقمة للأنظمة للأسباب نفسها.

 

لهذه الأسباب، تشكّل الهيمالايا منطقة نزاع دائم بين الجارتين العملاقتين. ولكن لماذا التنازع على منطقة غير قابلة للسيطرة؟

 

هنالك عوامل عدة تعطي الهيمالايا أهميّة استراتيجيّة:

 

ـ العامل الأوّل هو هضبة التيبت، أو ما يُعرف بالقطب الثالث، والذي يمتد على مساحة تزيد عن 4.2 ملايين كيلومتر مربع عبر 10 دول. يطلق على المنطقة اسم «القطب الثالث»، لأنّ الأنهار الجليدية الجبلية وحقول الجليد تخزن مياهًا متجمدة أكثر من أي مكان آخر في العالم باستثناء القطب الشمالي والقطب الجنوبي. وهي مصدر لعشرة أنهر رئيسية. وهي منطقة غنية حضاريًّا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا هائلاً، بالإضافة إلى غناها بالموارد الطبيعية، حيث يستفيد أكثر من 3 مليارات شخص من المياه والغذاء والطاقة المنتجين في أحواض هذه الأنهر.

 

- العامل الثاني، يتعلّق بالنظام السّياسي في دول هذه الهضبة، حيث أنّ غالبيّة هضبة التيبت تشكّل منطقة ذاتيّة الحكم من ضمن جمهوريّة الصين الشعبية، بعد اجتياحها عام 1950، وقد لجأ الدالاي لاما، القائد الروحي والزمني للتيبت إلى الهند، وانشأ حكومة منفى فيها. وتوجد اليوم جهود دوليّة كثيفة للمطالبة باستقلال جمهوريّة التيبت عن الصّين، وهذا الأمر اذا حصل، سيعطي الهند تفوقًا واضحاً على الصّين. بالإضافة الى النيبال ومملكة بوهتان اللتين تحاول الصين جاهدة قلب النّظامين فيهما لتصبحا شوكة في خاصرة الهند، حيث أنشأت الصّين في العام 2019 «شبكة عبر الهيمالايا»، وهي ممر اقتصادي بين نيبال والصين وجزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية.

 

- العامل الثالث، هو هضبة «دوكلان» في نقطة حدوديّة مع مملكة بوهتان، حيث تشرف على سهل وممر استراتيجي هندي هو»سيليغوري»، الذي يربط شمال شرق الهند بباقي المناطق الهندية. فإذا استطاعت الصين ان تسيطر عسكرياً على هذه الهضبة، تستطيع بذلك أن تطعن الهند بخاصرتها الضّعيفة، وتقسمها الى قسمين.

 

- العامل الرابع والأهم، هو عامل «إلهاء» الهند عن نشاطها العسكري في المحيط الهندي وفي بحر الصين. فالهند دولة «بحريّة» بامتياز، ابنة المملكة المتحدة الرائدة في عالم البحار، تمتلك أرخبيلاً من الجزر «أندمان ونيكوبار» وتهيئ له مخططاً عسكريّاً متكاملاً، الذي ما ان يكتمل حتى يشل تماماً حركة الصين البحرية وسطوتها على المحيط الهندي، من خلال استراتيجية «خيط اللؤلؤ»، وهي عبارة عن شبكة جيوسياسية من المنشآت البحرية والموانئ والعلاقات العسكرية والتجارية الصينية على طول خطوط الاتصال البحرية، والتي تمتد من الصين الى القرن الأفريقي.

 

فالعلاقة اليوم بين الهند ودول الجوار ممتازة. فالحوار الأمني الرباعي مع الولايات المتحدة واليابان واستراليا، سيسمح بتكوين «ناتو» خاص بدول جنوب شرق آسيا، يشل الحركة الصينيّة. فبعد أن كانت استراليا تغرّد خارج السّرب، أتى إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية، ليعيدها الى دول الحوار الأمني.

 

اما العلاقة بين الصين وروسيا، والتي يعتبرها البعض «الفزاعة» في وجه اميركا وحلفائها، فهي اليوم ليست على ما يرام، لأسباب كثيرة، منها الإقتصاد، و»نسخ» الصين للتكنولوجيا العسكرية الروسية وإعادة صناعتها بكلفة أقل، بالإضافة الى مسألة «فلاديفوستوك» التي تعتبرها الصين أرضاً لها، محتلة من الروس. في المقابل تبدو العلاقات الروسيّة-الهندية أكثر ثباتا، حيث أن بوتين لا يمارس ديبلوماسية «قرن البوظة» كما مع الصين وتركيا، ولن يضطر الى دفع شيء من جيبه، فالهند اشترت منظومة «إس-400» ولم «تُعاقب» من الولايات المتحدة.

 

في الشرق الأدنى، يشكّل الخبراء الهنود مصدر دخل لدول الخليج، حيث لهم الباع الطويل في عالم الذكاء الصناعي. بينما تشكّل الصين مصدر «صرف للأموال»، حيث يشكّل الخليج سوقاً كبيرة للصين. اما إسلامياً، فمسلمو كشمير اصبح لهم حكم ذاتي، بينما إسلام الروهينغا في الصين يُضطهدون كل يوم.

 

ورقة ممكن للهند ان تلعبها في القريب العاجل

 

اما على صعيد الغرب، فماكرون يتحضّر لرئاسة الإتحاد الأوروبي لمدة 6 أشهر، فإما أن يكون امبراطور اوروبا الجديد، أو ينتهي عهد العلمانية واليسار في فرنسا. ففي جعبته برنامج واضح وصريح لأوروبا مسلّحة، غير أنّ سباق التسلّح أوصل العالم الى حربين عالميّتين.

 

ماكرون اليوم يفاوض مستنداً الى ملفات كثيرة هي عينها ملفات المسألة الشرقيّة، علمانيّته ويساريته تمنعانه من أن يكون الكاردينال ريشيليو الجديد، هو طامح أن يكون بونابرت الأوّل الجديد، غير أنّ فرنسا اليوم محكومة بلعنات بونابرت الثلاث، غير المؤمن بالكنيسة، واقصى طموحاته كانت «الروفانشية» واستعادة الألزاس من ألمانيا.

 

مراهنة ماكرون على العلمانية واليسار قد تخسر في أي لحظة، مع وجود خصوم كـ»ايريك زيمور» اليهودي البربري الأصل، المؤمن بالتعددية الحضارية والعقيدة الإجتماعية للكنيسة، والمتحالف مع الأقليات، ولا سيما منها الأرمن (في مشهدية تذكّر بساركوزي) والديموقراطية المسيحية التي بدأت فعلاً تغيّر وجه اوروبا، حيث صرّح النائب الفرنسي فرنسوا كزافييه باليميه، أنّ على اوروبا الحفاظ على عيد الميلاد، وان تتذكّر أصولها المسيحيّة. فمع هذه الخسارة التي قد تقع في أي لحظة، ونحن أمام وفاق اوروبي جديد، فهل ستجد فرنسا تاليران جديد «يرقّع» اخطاء نابوليون، أم أنّها ستعود الى رشدها كالإبنة الكبيرة للكنيسة، ويتحوّل حينها الوفاق الأوروبي وفاقاً قائماً على المُثل المسيحيّة؟

 

أمام كل هذه الأسئلة، وامام كل هذه المتغيّرات، وبعد أن «جسّ» الهنود نبض لبنان انطلاقاً من قطاع الطاقة، ومع اقتراب عيد الميلاد، حيث ينتظر المسيحيون النور الآتي من الشرق، ينتظرون ميلاد خالقهم، ملك السلام، ينتظرون أن يلمع نجمه في بلاد فارس ويرشد المجوس الزردشتيين الى ارض الميعاد، حاملين معهم هدايا وسلاماً لا حروباً، ينظرون الى ثورة غاندي بإعجاب لا الى ثورة الشيوعية في الصّين.

 

لبنان أرض الرسالة والتعددية الحضارية امام مشروعين اليوم، فإما ان يحافظ على وحدته من خلال نظام حيادي فدرالي يضمن حقوق المجموعات الحضارية الموجودة على أرضه، ويحافظ على الإقتصاد الحرّ، واما أن نرى لبنان الصغير عائد وبقوة.

 

ومع فؤاد افرام البستاني - من مذكرته «مسألة لبنان» نقول لنشدّد على كلام البطريرك الراعي: متى وكيف سينتهي هذا المطهر الذي نعيشه في لبنان؟ مجرى التاريخ في القرن التاسع عشر يدّلنا إلى ذلك، ثم إنّ المنفذ الوحيد الممكن:

 

تدويل المسألة اللبنانية والعودة إلى صيغة لبنان القديم: استقلال وحياد تضمنه قوى منظمة الأمم المتحدة...

theme::common.loader_icon