الأمن التربويّ وطفرة التعلّم الإلكترونيّ
الأمن التربويّ وطفرة التعلّم الإلكترونيّ
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

بروفيسور في جامعة القدّيس يوسف ببيروت، رئيسة مؤسِّسة لجمعيّة التميّز للأبحاث المبتكرة والاستدامة والتنمية الاقتصاديّة "AXISSED"

Thursday, 02-Dec-2021 06:35

إنّ أزمة التعلّم الإلكترونيّ «عن بعد» ذات شقّين في الوضع اللبنانيّ: صحيّ وماديّ، ويبدو أنّه ليس لدى الحكومة تصوّر واضح لوضع التعلّم، فهي التي شدّدت على ضرورة الدوام حضوريّا مع بدء السنة الدراسيّة في السابق، ها هي تمنّي النفس بالعودة إلى التعلّم عن بعد، لتخفيف التكاليف عامّة (نقل، وتدفئة، وإنارة ...)، في ظلّ شبه انعدام الإمكانيّات الأساسيّة لعمليّة التعلّم.

اليوم، ها هو «أوميكرون» على الأبواب «يلوِّح» بإعادة إغلاق شاملة للمرّة الخامسة عالميّا ومحليّا. وقبل أن «يضرب ضربته»، من المفيد إعادة قراءة تجربة التعلّم الإلكترونيّ، وتفنيد إيجابيّاتها وسلبيّاتها، لعلّنا «نتقدّم» في القطاع التربويّ، ولو خطوات متواضعة، في ظلّ تراجع عامّ في أداء القطاعات كافّة...


بما يخصّ الحكومة القائمة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا البلد، ولأنّ المسألة التربويّة ليست محصورة في التعلّم، أو بوزارة خاصّة، بل عصب أساسيّ في المجتمع. يؤسفنا أن نجد الموضوع التربويّ يغيب عن أولويّات التحدّيات الإنقاذيّة للدولة. وها نحن نشهَد موجات من المقاطعة، والاضرابات التي تُترجم صرخة القطاع التربويّ في وجه الواقع الماديّ والمعيشيّ المؤسف، والآتي قد يكون «أعظم»!


بالطبع، إنّ معظم الدول المانحة «الصالحة» تهتمّ بدعم القطاع التربويّ، ونجد عندها النوايا الطيّبة للاستثمار في تعلّم النشء لأنّه أحد أهمّ الضمانات التي من شأنها أن توقف تدهور المجتمع اللبنانيّ في المستقبل. لكنّ هذا يتطلّب من الدولة ضمان عمليّة رقابة تنفيذ هذه المشاريع والشفافيّة، من دون أن تكون هذه المساعدات مصدرا لفضائح مستقبليّة. ونتساءل: من سيستفيد من هذه المساعدات؟ فالجميع «مكسور» ماديّا...


ومهما بلغت المساعدات الماديّة التي ستُغدَق على لبنان، يجب أن نعي أنّ الكتاب، والقرطاسيّة، والأقساط، والنقل، ليست المقوّمات الوحيدة لنظام التعليم. فهجرة الكفاءات الّتي زادت حدّتها في الآونة الأخيرة، أدّت بالقطاع التربويّ إلى التراجع، وفقد اللبنانيّ ثقته في المؤسّسات التربويّة الرسميّة، لكنّه عوّل على القطاع الخاصّ في ظلّ مقدرته على دفع الأقساط المهولة في أيّام البحبوحة، وبدايات الضائقة المادّيّة.


أمّا اليوم، لم يعد القطاع الخاصّ نفسه قادرا على ضمان موارده البشريّة وكفاءاتها، وأصبح يسابق نظيره الرسميّ في انحدار مستوياته، والنزوح إلى المدارس الرسميّة أحد الأدلّة على أنّ المدارس الخاصّة لم يعد بإمكانها تقديم أو جذب التلامذة كما كانت عليه سابقا، فسجّلت الإحصائيّات الرسميّة نزوح حوالى 60 ألف تلميذ من الخاصّ إلى الرسميّ.


من المؤلم أن نرى لبنان «منارة الشرق» يشهد اليوم مستويات «فقر التعلّم» بين أطفاله تصل إلى أكثر من 60 % بحسب منظّمة اليونسكو، وقد انسحب هذا الواقع ليصل إلى تلاميذ الصفّ السابع الأساسيّ بدل الخامس الأساسيّ بعد عامين من التجربة العصيبة للتعليم عن بعد، خصوصا أنّنا نجد هذه الشرائح بوجه عامّ في الطبقات الأكثر حرمانا (من كلّ شيء)، تلك البيئة التي تجتذب التلامذة في تعليمهم الابتدائيّ إلى ترك مدارسهم والالتحاق بالعمل تحت ضغوطات معيشيّة وأسريّة هائلة.


إنّ جميع سياسات الأمر الواقع التي تتبعها الحكومات تبقى ناقصة لأنّنا أمام مشهد تعجز فيه الوزارات على التنسيق فيما بينها، وفي ظلّ تأكيدها على أهميّة استمرار العامّ الدراسيّ، تجد في التعلّم الإلكترونيّ سبيلاً لإنقاذ ماء وجهها، ولطالما أنقذ الإغلاق العامّ الحكومة في كثير من المحطّات السابقة.


على نطاقٍ عالميّ، واستجابة لموجات انتشار فيروس كوفيد-19 المتتاليّة، تحوّلت المؤسّسات التربويّة في جميع أنحاء العالم إلى التعلّم الإلكترونيّ، وشهد مجال التربيّة طفرة ما زلنا نحاول معرفة خصائصها، ونحن نتعايش معها. والسؤال يبقى: كيف نستفيد من منصّات الإنترنت والتكنولوجيا على تنوّعها في عمليات التعلّم في لبنان، وتوظيفها لمصلحتنا في ظلّ وباء اقتصاديّ-سياسيّ-اجتماعيّ يجتاح البلد منذ سنوات؟


قدّمت التقنيّات الرقميّة الدعم في مختلف القطاعات والمجالات في أثناء تفشّي فيروس كورونا بشكلٍ عامّ، وفي التعليم على وجه التحديد. ومع توسّع توظيف منصّات التعلّم الإلكترونّي منذ العام 2020، حاول العديد من الباحثين فهم العوامل التي تؤثّر في قبول استخدام التعلّم الإلكترونيّ، والميل إلى الاستمرار به (ولو بطريقة هجينة) حتّى بعد أزمة وباء كورونا في المستقبل، وهذا ما قد يصبّ في مجال مساعدة لبنان لإنقاذ إرثه التربويّ، بعدما ضرب القطاع التعليميّ (الرسميّ والخاصّ) عجز اقتصاديّ كبير، وهو يستنجد بدولة لا تستطيع إنقاذ نفسها.


يُنظر بوجهٍ عامّ إلى الجيل الجديد على أنّه الشريحة التي قد تتحوّل بسهولة إلى التقنيّات الرقميّة والبيئة الافتراضيّة، حيث لا تواجه (في الظروف الاعتياديّة) أي مشكلة تشغيليّة. إذ رأى الباحثون أنّ التعليم الإلكترونيّ أوجد مصدرا جديدا للاهتمام لدى الطلّاب، في اعتماده أجهزة الكمبيوتر، والشبكات، وتقنيّات التواصل المرئيّة والصوتيّة.


وعلى مستوى اجتماعيّ-نفسيّ، أدّت الأزمة المضاعفة في لبنان إلى تعديل عادات الناس، وأجبرت الطلّاب على تغيير أسلوبهم في التعلّم. فأصبح الاندماج في التعلّم عبر الإنترنت جزءًا كبيرًا من مشاركة المجتمع الأكاديميّ، يوميًّا وقد دخل عامه الثالث عالميًّا ولبنانيًّا، وأصبح التعلّم الإلكترونيّ الطريقة المبتكرة-الاعتياديّة للتواصل بين المؤسّسات التربويّة وطلّابها. لكن في العامين المنصرمين، كافح الطلاب على جميع المستويات للتكيّف مع الانتقال الحاصل من التعلّم التقليديّ إلى «الصفوف الافتراضيّة»، فأصبح الطالب يقضي معظم أوقاته في فضائه الشخصيّ، أو حجرته الخاصّة.


كما واجهت المؤسَّسات التربويّة العديد من التحدّيات والعقبات لضمان جودة التعليم الافتراضيّ، بدءًا من المشكلات الفنيّة إلى العقبات التربويّة. وقد كان الهدف الرئيسيّ دائمًا هو اختبار رضا الطلّاب في استخدامهم التعلّم الإلكترونيّ، واعتماده كنظام تعليميّ يقود عمليّة تحوّل كبيرة في المستقبل.


لذلك، يجد الباحثون أهمّيّة كبيرة في المزيد من البحث والتحليل، لكشف كيفيّة توفير الظروف الأفضل، وضمان مستويات التعلّم الراقية، ليؤثّرا إيجابًا على التعلّم الإلكترونيّ، ما يؤدّي إلى قبول المشاركة عبر الإنترنت في المستقبل. لكن ما الذي يمكن إضافته في حالتنا اللبنانيّة هنا؟


تُعَدّ تقنية التعلّم الإلكترونيّ فريدة من نوعها، لكنّ الطلّاب في لبنان معرّضون للتأقلم في بلد تنقص فيه الكفاءات في هذا المجال المستجدّ، وهم بحاجة إلى من يقودهم ويوجّههم من خلال استخدام أنظمة التعلّم الإلكترونيّ في أثناء الفترة الانتقاليّة التي قد تطول، وهي بحاجة على الدوام إلى عمليّات التدقيق والتقييم والتقويم.


ومهما تغيّرت الظروف في المستقبل القريب على المستوى الصحيّ، يمكن اعتبار الوصول إلى التكنولوجيا النقطة الأضعف في النموذج التعليميّ اللبنانيّ. إذ يفتقر الطلّاب إلى الاتّصال بالإنترنت بسبب ضعف البنية التحتيّة وتبخّر الموارد الماليّة. كما أنّ الإنترنت باهظ الثمن خصوصا إذا كان على الطلاب اللبنانيّين شراء باقات ذات سِعة وسرعة كبيرين لضمان اتّصالهم الدائم بالإنترنت.


لذلك، ستبقى جميع التقييمات «غير واقعيّة»، إذ نجد أنّ شريحة كبيرة من الطلّاب غير راضين عن التعلّم عبر الإنترنت بسبب الصعوبات التكنولوجيّة، لأنّ البنية التحتيّة في لبنان أقلّ من المتوسّطة، والاتّصال سيّئ بوجهٍ يمنع الطالب من الالتحاق بالحصص الدراسيّة كأيّ طالبٍ عادي، من دون أن نذكر أنّ هذه الأمور قد طالت المدرّسين أنفسهم، لأنّهم يعيشون ضمن الظروف نفسها.

 

كيف لنا أن نتصوّر طالبًا يقوم بالمجهود الذي يقوم به زملاؤه لكنّ ظروفه لا تسمح له؟ فهو يضطرّ إلى التغيّب، ولا يستطيع تحميل جميع البيانات، وغيره من الظروف غير العادلة التي يرفضها أيّ منطق، وهذا ما يتعرّضون له كذلك في أثناء الامتحانات، ويا لدرجات التوتّر المرتفعة في تلك الظروف.


وكي لا نرمي الحمل كُليًا على الظروف الخارجيّة، كشفت بعض الدراسات أنّ «النوايا السلوكيّة لاستخدام التعلّم عبر الإنترنت» تؤدّي دورًا رئيسيًّا في الوصول إلى النتائج المرجوّة، وتوصي غالبية المؤسّسات التربويّة بالاستثمار في المزيد من الظروف التسهيليّة، والعمل على تطوير قيم التعلّم من خلال حملات داخليّة وخارجيّة مكثّفة يمكن أن تؤمّن التعبئة للطلاب في هذا الصدد، وقد تغطّي على الحملات «التعبويّة الفارغة» التي يقوم بها بعض الزعماء لتشتيت الجيل الجديد في الوصول إلى أهدافه وحقوقه، وتحقيق تقدّمه وتطوّره وأحلامه.


أيضًا وفي دائرة أوسع من التعلّم نفسه، قد يكون من المفيد النظر في تأثير التعلّم عبر الإنترنت على البيئة المستدامة، والسياقات ذات الصلّة، وإطار العمل في المدارس والمعاهد والجامعات. إذ يمكن للدعم التقنيّ والتربويّ من المؤسّسات أن يعزز علاقتها مع الطلاب. وبالنسبة الى ما يتعلّق بهذا الموقف، يمكن توسيع الدراسة للكشف عمّا إذا كان الطلّاب يتمتّعون بدعم تعليميّ وتنظيميّ جيّد من مؤسّساتهم التربويّة، وإن كانت ثمّة طرق مبتكرة تتخطّى الصعوبات المشتركة والتقليديّة التي تواجهها معظم المؤسّسات الأُخرى في البلد.


في صميم الأهداف التربويّة، تبقى الصحّة النفسيّة للطلّاب أمرًا محوريًّا، فبالإضافة إلى الظروف المعيشيّة الراهنة في البلد، زادت هذه «القفزة التقنيّة» العبء على الطلّاب، بما تتطلّبه من عمل شخصيّ ومجهود للتوافق مع «الموجة الحديثة» للتعلّم. فمن الممكن أن يؤدّي هذا الجهد المكثّف إلى مزيد من الاضطرابات النفسيّة مَتبوعة بالقلق والتوتّر والتأثيرات السلبيّة، وهي ظاهرة يجب أن تُدرس وتبقى نُصب أعيننا في انتقالنا إلى عالم التعلّم الإلكترونيّ.


وهنا نقترح بعض التوصيات العمليّة التي يمكن أن نشاركها التربويّين الاختصاصيّين، في بحثهم عن الحلّ الأفضل الذي يضمن «الأمن التربويّ» في لبنان، ونتغلّب فيه معاً على الجوائح المختلفة الّتي تضرب القطاع التعليميّ:

- تطبيق المنهجيّات المتعدّدة والمتنوّعة في التعلّم عن بعد، والجمع بين التعلّم المتزامن وغير المتزامن في المنهج الدراسيّ.

- تخصيص باقة تعليميّة على الانترنت بأسعار تشجيعيّة، أو حتّى مجّانيّة، يمكن ضبط استخدامها بالوسائل التعليميّة والمعرفيّة وحسب.

- التمحور على التلميذ أو الطالب نفسه، الذي عليه أن يدرك حضور المدرّس في «الصفّ الافتراضيّ» عن طريق تشغيل الفيديو.

- تسجيل المحاضرات وأرشفتها حسب الأصول للطلاب الذين لم تُتح لهم الفرصة لحضور الجلسات في وقتها، وهو أمر مهمّ للغاية لضمان التعلّم الإلكترونيّ المتكافئ، خصوصًا للطلاب الذين يعانون عدم توافر البنية التحتيّة الرقميّة المناسبة.

- تعزيز تجربة التعلّم الإلكترونيّ عن طريق تقسيم الطلاب إلى مجموعات أصغر، على عكس المجموعات الأكبر الّتي يمكن أن تقلّل جودة التدريس واكتساب المعرفة، كذلك استخدام نهج التعلّم التفاعليّ، ودراسة زمن الجلسات الافتراضيّة.

- تصميم استراتيجيّة تقييم الاختبارات التكوينيّة المستمرّة (أسئلة ذات إجابات متعدّدة، اختبارات قصيرة...) طوال الفترة لضمان حصول الطلاب والتلامذة على الأهداف والغايات المرجوّة. كذلك، طرح المزيد من الأسئلة التحليليّة في الاختبارات، لمنع «الغشّ» في الامتحانات عبر الإنترنت.


على الرغم من مزايا التعلّم الإلكترونيّ والمجالات التي وفّرها واستحدثها، يبقى المعيار الأساسيّ في التعلّم الإلكترونيّ هو مدى استعداد الطلّاب للتعلّم عبر الإنترنت، خصوصاً في لبنان المستقبل، حيث إنّ هذا النهج الجديد يُساعد في تخطّي العوائق الصحيّة وأيضاً الاقتصاديّة عندما يعود كلّ شيء إلى طبيعته.


هكذا، وبما أنّ أحد الوزراء كان يرى يوماً أنّ العامّ الدراسيّ سيشهد انطلاقة متجدّدة وأنّ المشكلات العالقة ما هي سوى «مشكلات تقنيّة»، تُثبت التجربة أنّ «الحكي مش مِتل الفعل»، وأقلّ الإيمان أن نضع خططًا لنستفيد من الظروف وإن كانت سلبيّة في بعض الأحيان.


كذلك، علينا معرفة كيفيّة تعويض الخسارة المعرفيّة والتربويّة لدى الطلّاب، لا سيّما أنّ ساعات التعلّم الحضوريّ انخفضت إلى النصف في أحسن الأحوال، وتقليص المناهج يُفضي بنا حتمًا إلى إعادة دراسة شاملة ومتكاملة لها. فأين المهارات الفنّيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة التي كانت المؤسّسة التربويّة الركيزة الأولى لها إلى جانب الأسرة؟ وأين الدعم التقنيّ والمهنيّ والمعنويّ للكادر التعليميّ كي يستفيد هو أيضًا من هذه الأدوات الإبداعيّة في مجالات التعلّم؟

theme::common.loader_icon