كارتيل إبليس
كارتيل إبليس
جان كلود سعاده

خبير متقاعد في إستراتيجيات العلامات التجارية

Saturday, 06-Nov-2021 06:48

سنتان مرّتا على خروج الأزمة النقدية الى العَلَن وما استتبعته من جفاف مالي وخراب اقتصادي لا يزال يضرب البلد والناس في حياتهم ورزقهم ومستقبلهم وفي صحتهم الجسدية والنفسيّة ايضاً.

 

بعد سنتين من تلقّي الضربات ونتائج الأزمة يومياً وفي كل المجالات، من الطبيعي ان يسأل المواطن العادي نفسه مجموعة من الأسئلة البديهيّة التي في النهاية لا تغيّر شيئاً في الواقع:

 

هل كان عليّ ان أستعلم اكثر عمّا يجري في الإقتصاد؟

وهل كان ذلك متاحاً؟

ألم يتفق الجميع على تمجيد المعجزة اللبنانية والإستقرار الإقتصادي واسطورة الليرة الثابتة بسحر ساحر؟

هل كان في استطاعتي ان أنقذ نفسي وعائلتي من هذه الحفرة؟

 

المواطن العادي يسأل ولا جواب قاطعاً على ما يدور في ذهنه... لكن في مكان آخر وفي الإدارة التنفيذية لـ»الكارتيل»، كانت الأمور واضحة ومعروفة ومخطّطة مسبقاً، ونتائجها مُقدّرة ومتوقعة، ومن هنا دناءة الجريمة وانعدام اي حدود للعقل الشرير الذي يدير هذا البلد.

 

بعد التوقف النظري للحرب التي استمرت خمسة عشر عاماً، بدأت في مطلع التسعينيات مرحلة ما بعد «إتفاق الطائف» ومحرّكها الأساسي ماكينة لتوزيع المنافع وشراء الولاءات والرضى الخارجي والداخلي.

 

بدأت العملية في بديهيّات الفساد المعروفة إجمالاً، وهي حشو الدولة والمؤسسات بالأزلام والاستحواذ على المناقصات والسمسرات وكل ما يستتبع ذلك من تركيبات «قانونية» وشركات حقيقية ووهمية، وما الى ذلك من عدّة الشفط.

 

لكن سرعان ما اكتشفت المنظومة انّها ليست في حاجة الى كل هذه التركيبات والدورة الطويلة والمعقّدة لتصل في النهاية الى المال العام، فهناك طرق اسرع واقصر الى خزينة الدولة، وإذا فرغت الخزينة فالإستدانة هي الحل.

 

قامت ماكينة الكارتيل على مبدأ بسيط:

 

1- إجتذاب الأموال من مصادر عدّة، منها النظيف ومنها المشكوك في مصادره.

2- توزيع الريع والمغانم بطرق عدة على الحلقة الضيّقة للكارتيل والفتات للمحاسيب.

3- إخفاء الخسائر «تحت السجادة» وخداع الجميع بالتقارير المفبركة وتلميع الصورة.

 

هذه التركيبة البسيطة في المبدأ كانت في حاجة الى مصادر للمال وقطاعات رديفة، تساعد في خلق مزيد من المال عن طريق المضاربات وتبييض الأموال وتوظيف المبالغ المكتسبة في مشاريع واعمال قبل تحويلها الى الخارج وخصوصاً الى الملاذات الضريبية واخفائها وراء طبقات عدّة من شركات «الأوف شور» والشركات الوهمية في باناما والجزر العذراء البريطانية وليشتنشتاين وغيرها، بينما اصحابها في لبنان يحاضرون في العزّة والكرامة والجبهة المرفوعة ونظافة الكف. فنشطت قطاعات عدة منها العقارات والمقاولات والاستيراد المفرط على حساب الإنتاج وتطوير المهارات التنافسية للبلد.

 

كاد هذا النظام ان يترنح ويسقط مرات عدة، وفي كل مرّة كانت المنظومة تسارع الى استجداء المؤتمرات والمساعدات والقروض، لا لإصلاح الخلل بل لإطالة عمر عملية الإحتيال الضخمة، ولكي تتيح الفرصة لبعض المستفيدين ليجمعوا ثرواتهم ويتركوا الطاولة، بينما يدخل مستفيدون جدد وبحماسة وشراهة اكبر للجلوس الى طاولة توزيع الغنائم وبيع الضمائر.

 

هنا لا بدّ من الإشارة الى زوال الحدود بين السياسة والمال والأعمال في لبنان، فتضارب المصالح وعدم جواز الجمع بين العام والخاص هما مسائل تخطّاها الزمن بالنسبة اليهم، فلا شيء يقف امام جوع المنظومة الى السرقة.

 

من الطبيعي أيضاً انّ حُسن سير عملية بهذا الحجم وعلى مدى عقود، استوجب تفصيل قوانين وشراء ذمم ومؤسسات ومصارف ورشّ بعض الفتات لتسهيل الأعمال.

 

وهنا لا بدّ من الإشارة الى أمر له دلالاته على النيّة الإجرامية لهذه المنظومة؛ ففي بلد ليس لديه مدخول وازن بالدولار، ولديه عجز شبه دائم في ميزان المدفوعات والحساب الجاري، عمدت الجهات النقدية والمالية وبموافقة الدولة اللبنانية الى الاستدانة بالدولار. ولم تقف عند هذا الحدّ، فقد خلقت نظاماً نقدياً ومصرفياً يراكم الأرباح بالدولار الحسابي، بينما المصادر الأساسية للدولار الحقيقي هي فقط تحويلات المغتربين والقروض الخارجية وبعض عمليات التصدير، فخلقت تبايناً هائلاً بين موجودات الدولار الحقيقي الذي أدخل المغتربون معظمه من وظائفهم واعمالهم في افريقيا ودول الخليج واميركا، وبين الدولار الدفتري الذي انتجته المنظومة من الفوائد الفاحشة على الليرة والتحويل الحر على سعر الصرف الثابت اصطناعيّاً.

 

امّا الشعب الذي يتمّ الهاؤه بكافة الأمور السياسية والمعيشية والغوغائية وحملات المناكفات وحروب الجيوش الإلكترونية، كان غافلاً عن القنبلة الموقوتة، او على الأقل اشتبه بوجود مشكلة ما، لكنه قَصّر عن تقدير حجمها وتوقيت انفجارها.

 

إدارة المنظومة كانت تعلم انّ الارتطام وشيك، وانّ الأزمة واقعة لا محالة اقلّه منذ هندسات 2016 وخريف 2017، حين بدأت حركة الرساميل بالخروج من لبنان. كما انّ الجهات الدولية كانت تعلم حقيقة الوضع على الأقل منذ عام 2015 كما ذكرت وكالة «رويترز» أخيراً، بعد اطّلاعها على تقرير لصندوق النقد الدولي يعود للعام 2016 تمّت لفلفة مضامينه في حينها.

 

هنا ايضاً كان يمكن استدراك الأمور واتخاذ خطوات للإصلاح وتحفيز القطاعات المنتجة، بدل الإستمرار المُريب في ترك الأمور على غاربها وتدهورها نحو القاع. لكن المنظومة لم تكتفِ بعدم القيام بأي خطوة مفيدة، بل أضافت خديعة كبرى اخرى على سجل السرقات، عندما عمدت الى التطمين الفارغ والتصريحات المضللة، بينما كانت ومنذ زمن قد أعطت «التعليمة» الى خاصّة الكارتيل ليحموا ثرواتهم، إن بالتحويل الى الخارج، وطبعاً استعملوا في ذلك الدولارات الحقيقية التي ادخلها المغتربون، او عبر شراء العقارات والذهب.

 

على اطراف المنظومة كانت هناك مجموعة من ادعياء التنظير العبثي، التي لا تقل اجراماً ووقاحة عن الكارتيل نفسه، وإن حاولوا الاختباء وراء تسميات وصفات رنّانة. وهذه المجموعة من الخبراء والسياسيين، الذين قُدّر لهم بحسب اختصاصهم واطّلاعهم وعملهم مع المنظومة، ان يعلموا علم اليقين بما كان آتٍ، فلم يحذّروا الناس صراحةً، بل حاولوا استعمال هذه المعلومات للربح او «التمريك» السياسي، في معركة لا تمت الى هموم الناس وتحسين حياتهم بصلة.

 

في الخلاصة، ما فعلته هذه المنظومة بالبلد والناس ما كان ليفعله عدوٌّ حاقد، وهي لا تزال تتمسّك بمراكزها وتمعن في افلاس الاقتصاد وسرقة المودعين وتجويع الناس، في انتظار انتخابات جديدة وجولات أخرى من الهلوسة والعربدة فوق مآسي هذا الشعب.

 

لا وصف يَصُح بهذه المجموعة الشريرة والوقحة من عديمي الضمير الّا «كارتيل ابليس»

theme::common.loader_icon