«حادثة شرف» ضباب التقاليد القاتلة
«حادثة شرف» ضباب التقاليد القاتلة
نسرين بلوط
Friday, 29-Oct-2021 06:28

يوسف ادريس في مجموعته القصصيّة «حادثة شرف» تناحر في قلمه الخير والشرّ إلى مدى بعيد وتأثّر بالأجواء القرويّة والبدع والأساطير ونظرة الرجل الشرقيّ للمرأة وتأطيره لها في حيّز الإغراء والإثارة، ومعاناة البؤساء مع الفقر والجوع، لينسج حكايات معظمها جاءت هامشيّة لا تكاد تسمن من متعة وفائدة، والقليل منها صبّت في قالب الحكمة الرئيسيّة التي تشير ببنانها إلى رقعِ الرذيلة والجهل في مجتمعنا العربيّ عامّة لتدعونا إلى اكتناه حماقته وسطحيّته ومرجعيّته.

 

هناك سنّةُ الترفّع والحصانة للذكوريّة والتي ما برحت تلاحق المجتمع جيلاً وراء جيل، وتتفاقم في تجلٍّ واضح وتهوّرٍ لا مانع يحدّه ولا رادع يردّه، فتفشّت الجرائم بحقّ النساء والفقراء وتنامت الروح الإقطاعيّة في بعض الرجال ممّن تعزّزت فيهم روح النرجسيّة أمام ضعف الجنس الآخر، وقد توغّل ادريس في الضغائن التي تآلفت في منازع النفوس الضالّة وسوء النيّة التي توافرت في العقول المستخفّة، ففي قصته الأولى «محطّة» يروي قصة رجل يجلس في أوتوبيس النقل العام ويراقب شابّاً يتقرّب من فتاة واقفة بالقرب منه تمسك بيد أخيها الصغير وينجح في اقتلاع بذرة الخجل من قلبها ويروّض تمرّدها الذي تنازع في نفسها ويعطيها رقم هاتفه فترحّب به وتقوم بحفظه عن ظهر قلب وبكلّ سرور، لتنحر خجلها أمامه مأخوذة بكلمات الشاب الأخّاذة التي أسرت لبّها، فتناست مبادئها وما حذّرتها منه أمّها دوماً.

 

في القصة الثانية «شيخوخة بدون جنون» ينتقد ادريس اهمال الآخرين للطبقة الفقيرة المهمّشة من العجائز الذين أحيلوا إلى المعاش فاضطرّتهم ظروفهم أن يقحموا غمار عملٍ يدويّ يدرّ عليهم القليل من القروش التي لا تكاد تكفي للطعام. فيروي قصة طبيب شرعيّ يعمل في المصلحة الحكوميّة ويفد عليه الكثير من الوجوه منهم النساء اللواتي يسخرج لهنّ شهادات ميلاد لأطفالهن أو يتأكد أن تطعيمهم قد نجح بإلقاء نظرة على أياديهم الصغيرة، ومنهم الرجال كبار السن الذين يعملون في حوانيت دفن الموتى ويردون إليه في الصباح كي يستخرجوا شهادات الوفاة فيذهب معهم بنفسه للكشف عن الميّت قبل إصدار ختم الموت. وقد تعرّف منهم على شيخ عجوز يدعى عم محمد ورافقه في صولاته وجولاته في الكشف وأخذته الشفقة به وتقرّب منه ولكنّه يفاجأ في يومٍ بأنّه توفيّ واضطرّ إلى الذهاب إليه في منزله المهدّم البائس ليلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة، ويشيّعه إلى مقرّ البشريّة الأخير وهو حفرة تحت الأرض تضمّ الأجساد البائسة بحنان لم يعهدوه في دنياهم القاسية فالفقر يلطم الجراح ويمتطي الأرواح لتفنى.

 

في قصة «تحويد العروسة» يحكي ادريس عن تقاليد بالية عفا عليها الزمن وكانت شائعة في بعض القرى، خاصة الشرقية وهي أنّ العروس عندما تتزوّج من خارج قريتها، تزف إلى عريسها مصحوبة بوفد كبير من أهل القرية، وأهلها وأقاربها، وعندما تمرّ بقرية أخرى يخرج أعيانها وشيوخها ليدعوا العروس وقافلتها للطعام والمبيت عندهم، وإن رفضوا تدبّ خناقة كبيرة قد تسفر عن قتلى وجرحى وندوب في وجوه الطرفين، وتنتهي إمّا بانتصار الموكب الأوّل أو بفوز أهل البلدة الذين يقومون باقتياد الموكب الخاسر بالقوّة لاستضافته.

 

وقد بطلت هذه العادة بسبب قصّة حدثت مع إحدى بنات قرية «كفر عزب» وقد كتب كتابها على شابٍّ من بلدة أخرى، وفي يوم الدخلة كالعادة خرج أهل القرية بأجمعهم ليوصلوها حتّى دار عريسها.

 

وفي الطريق اعترضهم رجلٌ ماردٌ عملاق من قرية أخرى وأصرّ عليهم أن يلبّوا دعوة السنديك بك، فتكلّم عنهم شيخٌ حكيم من أقرباء العروس عرف بالنباهة والفطنة وقبل الدعوة بيسر وبلا ايّ اعتراض.

 

شلّت المفاجأة المارد ولكنّه قادهم في الطريق إلى منزل السنديك بك الذي جنّ جنونه عندما عرف ببلاهة خادمه وتمسّكه بتلك العادات القديمة، فقد تدهورت أوضاعه وقلّت مصادر ثروته ولم يعد الحال كما كان، وها هو خادمه يربكه بأن يفرض عليه مائدة طعام لأكثر من مئتي شخص، فأمره أن يذهب ليعتذر من القافلة، ولكنّ الشيخ اعتبرها إهانة وأصرّ على العشاء والمبيت عند البك، الذي رضي بالأمر المفروض عليه والذي كلّفه مبلغاً باهظاً.

 

واستمرّت القافلة في الغد في رحلتها، وكان الشيخ كلّما صادف أناساً في قرى أخرى يدعونهم للغداء أو العشاء يقبل على الفور، وظلّت القافلة مستضافةً هنا وهناك حتى وصلت قرية العريس بعد سبعة أيّام كاملة من الترحال. يقول إدريس:» ومن أيّامها اضطرّ الشراقوة إلى تخفيف حدّة كرمهم، فتابوا عن تحويد العرائس وحرموا اعتراض مواكبها».

 

في قصة «حادثة شرف» يقرّ ادريس بالجهل المستفحل في الأرياف، فيروي قصة فتاة قرويّة فائقة الجمال والجاذبيّة، معتدّة باحترامها لذاتها وللآخرين، تعيش مع أخيها وهو متزوّج في منزله، ولكنّه يلاحقها بنظراته الجافّة المتشكّكة أينما ذهبت، وهي حريصة كلّ الحرص على شرفها وسمعتها. يعترضها شابٌّ خليع ذات صباح ويحاول أن يمسك بيدها عنوة فتصرخ بكلّ جوارحها حتى يهرع إليها الجميع ولكنّ أخاها يظنّ بأنّ الشابّ قد اغتصب شقيقته ويعلن رغبته في أن «تكشف عليها الست أم جورج» وإلّا قتلها واستراح. فتمشي الفتاة في موكب يحفل بأهل القرية وقد سلّطوا أبصارهم على نقطة واحدة من جسدها وكأنّهم يعرّونها من ملابسها ويقحمون أدقّ تفاصيل لحمها، وتسير منكّسة الرأس، يسكنها الغضب الجامح، حتى تصل إلى منزل المرأة ويتبيّن للجميع من خلال الفحص أنّها ما زالت عذراء فعلاَ.

 

ولكنّ حال الفتاة انقلب بعد تلك الحادثة الأليمة انقلاباً حاسماً، ومنحرفاً، فقد أصبحت نظراتها جريئة ونزعت عنها غلالة الخجل، ولم تعد تحفل باكتساب ثقة واحترام من حولها، وتبرّمت من شرفها الذي طرحه شقيقها أرضاً.

 

يوسف ادريس الذي اشتهر برواية «الحرام» تقلّصت مخيّلته في عالم القصص فلم يسر في نفس الخطّ الإبداعيّ الذي سلكه في رواياته، ونجح أن سلّط الضوء على ضباب التقاليد التي باتت انكساراً هائلاً لمن اتّبعها، وعاش في حظيرتها، وهو الذي لطالما ثار على سطام الذل الذي تلحقه في آذان مريديها، وألقى صرخة هائلة حزناً على التنوير الذي لفظ آخر أنحابه على أيدي الجهلاء.

theme::common.loader_icon