"قابيل أين أخوك هابيل" فلسفة تلقي عصاها في صحارى الله
"قابيل أين أخوك هابيل" فلسفة تلقي عصاها في صحارى الله
نسرين بلوط
Saturday, 23-Oct-2021 06:10

قد تكون خطايا الإنسان كرمل البحر كثافة واحتقاناً تحت غضون الشمس الحارقة، وتتشعّب لتصل إلى الدماء، كما فعل قابيل بأخيه هابيل، في الجريمة الأولى التي كانت الحربة الأساسية في انتزاع أنفاس الإنسانيّة من مرقدها الآمن.

إستعان الروائيّ ابراهيم الكوني في روايته «قابيل أين أخوك هابيل»، وهي الجزء الثاني من رواية «يعقوب وأبناؤه» والتي تدور أحداثها في مدينة طرابلس في ليبيا، بهذا التشبيه القديم لقصة أبناء آدم، كي يستحضر التاريخ الذي يتكرّر في سياجاتٍ من الآلام الحارقة، محطّماً البوق الذي ينفي فلسفة البحث عن الله في عالم المذنبين، إذ يكوّن حكمة خاصة بأنّ الإنسان ولد كي يرتحل وينزلق في ترهات الطمع والإنتهازيّة أو الخوف والتردّد والإنكسار والهزيمة، قبل أن يدرك أنّ الآباد والآماد والآزال هي وجهٌ واحد لخالقها، وأنّ الفردوس الحقيقيّ هو انعكاس ظلّ الروح في عالم الطبيعة والمحسوسات والملموسات.

 

في شقوق الضمير ينام الندم الذي لا يعلن عن نفسه، ولكنّه يفصح عن مكانته. فقد قتل يوسف أخاه حسن ليستأثر بالملك بعد والده الباشا، وبقيت أمامه عقبة واحدة وهي أخوه أحمد الذي يستحقّ الخلافة كونه الأكبر سنّاً.

 

ورغم المجزرة البشعة التي قام بها يوسف بمساعدة «الفطيسي»، وهو مستشاره الذي أُهدي إليه، وكان بشرّه ومكره أشدّ فتكاً من جماعة الأبالسة، فقد غفر له والده الباشا «علي باشا القرمانلي»، كما غفر الله لقابيل في سورة التكوين في الإنجيل. إذ وهبه علامة على جبينه تمنحه الأمان إن أراد به إنسانٌ شرّاً وكأنّه طبّق تعاليم الله الذي زوّد قابيل بالتسامح حتّى يتوب: («كلّم قايين هابيل اخاه». وحدث إذ كانا في الحقل، انّ قايين قام على هابيل اخيه وقتله. فقال الرب لقايين: «أين هابيل اخوك؟» فقال: «لا اعلم! أحارس انا لأخي؟»، فقال: «ماذا فعلت؟ صوت دم اخيك صارخ اليّ من الارض. فالآن ملعون انت من الارض التي فتحت فاها لتقبل دم اخيك من يدك. متى عملت الارض لا تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون في الارض». فقال قايين للرب: «ذنبي أعظم من ان يحتمل. انك قد طردتني اليوم عن وجه الارض، ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الارض، فيكون كل من وجدني يقتلني». فقال له الرب: «لذلك كل من قتل قايين فسبعة اضعاف ينتقم منه»).

 

يزداد بطش يوسف ليضعه الكوني في دائرة من «الابستمولوجيا»، أي تحت الدراسة والنقد، فإذ به يتهوّر في ظلمه ويتمدّد في تعسّفه، حتّى جفَّ ضرعُ الأرض يأساً من أفعاله الشنيعة، فهو طوراً ينكّل بالعشائر وطوراً يخطّط للانقلاب على أبيه ويعلن تمرّده عليه، بعد أن يرفض أحمد عرضه الدنيء بالإنضمام إليه. وبالفعل يبدأ باقتحام أسوار المدينة، وبدلاً أن يتصدّى له والده، يأمر قائد المدفعيّة أن يرمي القذائف في البحر حتى لا يُصاب ولده بأيّ ضرر حتى يفقد أسلحته جميعاً، ولا يحفل بغضب أحمد الذي يتّهمه بالتحيّز لابنه الضال الذي غدر به.

 

وفي هذا الوقت العصيب، يخطّط «علي بن زول» بمعاونة شقيقه القبودان باشا قائد أسطول الإمبراطوريّة العثمانيّة، للإستيلاء على طرابلس، بعد أن وردتهم شكوى من تجّار المدينة الكبار بأنّ الباشا وولديه يتصارعون من أجل الحكم، فيسعى لإيهام الناس هناك بأنّهم تلقّوا فرماناً بذلك من الباب العالي. فيقتحم المكان بمعيّة جنوده ويفتح النار على الجميع، فتُسبى المدينة وتُغتصب نساؤها ويُسحل رجالها ويُصلب اليهود والنصارى لذنبٍ لم يرتكبوه، ويفرّ علي باشا القرمانلي إلى تونس مع ولديه وبعض من حاشيته، معلناً هزيمته النّكراء في وجه عدوّه المزيّف، والذي بطش بمملكته عن طريق الخداع والخبث.

 

عندما يتمادى علي بن زول في طغيانه ويأمر بغزو جربة، بعد أن يعز إليه شيخٌ حكيم من أولياء الله، جاءه مكلّلاً بالحكمة الناصعة، يفيض الكيل بحاكمها «الباي»، فيرسل وزيره إلى تونس لعقد صفقة مع القرمانلي وولديه، لإستعادة حكمهم في طرابلس حتى يعود الأمان إلى الجميع.

 

يوافق الباشا على العرض ويتوجّه الجميع لحصار طرابلس واستعادة العرش المفقود، فيهرب علي بن زول، بعد أن سرق كنوز المملكة وهرّبها بواسطة السفن، ويعلن الجميع بأنّ أحمد بك أصبح ملكاً عليهم، بعد أن تنازل القرمانلي عن منصبه، مؤثراً الإنصات لحكمة البحر، ليعثر على فردوسه الحقيقيّ الذي لطالما بحث عنه، ولكنّ وهج السلطة أعماه، ولم يدرك لذّة الحريّة إلّا بعد أن تخلّى عن شره النفوذ.

 

يتصارع أحمد ويوسف على العرش، فقد بقي الأوّل رغم تنصيبه ملكاً لا يأمن غدر أخيه، فيرافقه في كلّ نزهاته ورحلاته ويتعقّبه أينما ذهب، أمّا يوسف فقد تأكّد بأنّ السلطة لا تمتّ لمخلوقٍ ضعيف مثل أخيه، فهي تحتاج للدم والسفك والقوّة والغدر حتى تستمرّ وتقوى وتتوهّج. والضعف لا يعرف التسلّل إلى حصون القوّة، فينفي أخاه خارج أسوار المدينة، بعد أن ينصب له كميناً حاذقاً ويعلن نفسه الملك، ليبرهن دوام التعطّش الدائم للدم والنفاق والخداع.

 

يختم الراوي قصّته بمصير علي بن زول، الذي طغى واستبدّ، ولكنّه مات وهو يفتّق من صخر أحاسيسه شعوراً بالوخز القاتل، فيزوره الشيخ الجليل الذي أوحى إليه بغزو جربة، ليهديه مرآة يرى فيها حقيقة نفسه، ويموت كمداً وغمّاً وحزناً، ولا تغني عنه أمواله شيئاً.

 

رواية «قابيل أين أخوك هابيل»، رغم الحشو الزائد فيها والمونولوج المتنقّل بأسلوبٍ غير منتظم في بعض الفصول، رواية فلسفيّة جارفة، تتجنّح بشعابها أحاسيس الكاتب، وتسيل كانبثاث الحرارة في جليد اللاوعي، لتصفّقها بواقعٍ محوريّ بأنّ الإنسان هو الإنسان منذ وجد آدم في الجنّة وهبط منها إلى الأرض، وأنّ أصل الشرور فيه هو تهالكه على السيطرة وتملّك كلّ ما استطاع تملّكه، وأنّ خطيئته الأولى ربّما تكون وجوده منذ البداية وليس استماتته لتناول الفاكهة المحرّمة، وهي فلسفة استدراكيّة تبني شخصيّاتها على أساس تكهّناتها وتحليلاتها الخاصّة، بقلم كاتب ارتحل بخياله وشخصه وكيانه في الصحارى البعيدة، لتضطرم نار الحكمة في حواشي نصوصه، وهو يبحث عن الله، ملقياً عصاه على رمال الصبر لتظلّ غربته تسكنه أينما حلّ وارتحل.

theme::common.loader_icon