الثقافة والتوعية عاملان أساسيان لبناء المجتمعات المتحضّرة
الثقافة والتوعية عاملان أساسيان لبناء المجتمعات المتحضّرة
بسّام ضو
Friday, 22-Oct-2021 06:32

يُجمع الباحثون على أنّ لا تقدّم ولا إرتقاء ولا نجاح ولا معرفة عميقة لأي مجتمع من المجتمعات، إلاّ من خلال أمر جوهري معنوي، ومن خلال سياسة ثقافية متنوّعة ومتعدّدة، تطال كل نواحي الحياة العامة للشعوب الراقية، سواء أكانت سياسية - أمنية - إقتصادية - إجتماعية - مالية - تربوية - تجارية، وما عداها من ثقافات... إنّ أجمل ما يُميِّز الشعوب المثقفة أنّها لا تخضع لمزاجية حاكم أو لعمليات حسابية ذات مصالح خاصة، تعتمد على تزويج المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة للأوطان ومؤسساتها الشرعية وللشعوب، التي تعيش في تلك الأقاليم.

إنّ إنفتاح الشعوب على بعضها البعض، هو دليل على مدى وعي وإهتمام وحرص المجتمعات الراقية على الدور الذي يلعبه التمازج الفكري الراقي والتفاعل بين مختلف الثقافات والحضارات في بناء مجتمعات راقية والنهوض بها إلى الأمام والتطوّر والرُقيّْ . قانونيًا وتاريخيًا، إنّ التمازج الفكري والتلاقي الحضاري البّناء لا يُلغي قيمة وأهمية الجذور التاريخية لأي شعب ولأي مجتمع يتمتّع بالحريات العامة والأصول والمبادئ والعادات الخاصة به...

 

ولكي نحكم على شعبٍ ما علينا مراقبة مكوّناته الفكرية والتعليمية والإستنتاجية والتحليل المنطقي السليم الذي يرتكز على القوانين المرعية الإجراء.

 

إنّ الثقافة هي أحد أركان بناء المجتمعات، او هي فعليًا تُشكّل العمود الفقري والمعنوي للشعوب، وتشمل كافة الجوانب غير المادية والمتمثلة في القيم والأفكار والتقاليد وحب المعرفة، وغيرها من القضايا التي يختص بها مجتمع واعٍ مدرك ومنظّم عن غيره من المجتمعات اللامتحضرّة، التي غالبًا ما تكون مجتمعات متقاتلة تهدِّد السلم الأهلي والإقليمي وحتى الدولي، بسبب قصر نظر مسؤوليها وتعميتهم وإنحدارهم اللاخلاقي وحبّهم لشهوة سلطة عفنة حقودة.

 

جاء في مؤتمر اليونسكو للثقافة الذي إنعقد في العام 1982 ما يلي: «الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، ما يجعل منه كائنًا يتميّز بالإنسانية المتمثّلة في القدرة على النقد البنّاء، المعتمد على المعرفة والإدراك والمقرون بالإلتزام الأخلاقي، وهذا يعني عمليًا من خلال الثقافة، يهتدي أي مجتمع مثقف إلى القيم ويُمارس الإختيار السليم، وهي وسيلة الإنسان للتعبير والبحث عن مدلولات جديدة ...». إضافةً إلى ذلك، لحظ المؤتمر العالمي للتنمية المنعقد في جنيف عام 1992، إنّ الثقافة تعني في آن التطور والتغيير في حالة قائمة، الإغتناء والإنفتاح ... كما أعطى هذا المؤتمر تحديدًا للتنمية الثقافية، حيث أشار إلى أنّها إغتناء بالثقافة وتقوية لعقول الشعوب والتغيير الممنهج وتوفير الفرص المناسبة للإنتاج والإبداع والتطوّر والإنفتاح، ومقاربة الأمور بالطرق السليمة لا العنفية، كما هو حاصل في المجتمعات التوتاليتارية، والتي للأسف طالت المجتمع اللبناني حاليًا وعاثت فسادًا وحقدًا وتضليلاً لكافة فئات الشعب المرهونة للدكتاتورية المستوردة.

 

إنّ الثقافة المجتمعية جزء أساسي ولا تتجزأ من حضارة الشعوب، ما دامت تهتم بما ليس آنيًا وماديًا ومصلحجيًا، والثقافة المجتمعية جزء أساسي من توعية الشعوب على مصالحها. إذ لا يمكن لأي تخطيط عام مستقبلي أن ينجح في ظل غياب مقاربة ثقافية موضوعية، والتي تُسهم عمليًا وبشكل فاعل في رفع مستوى الأفراد سياسيًا وإقتصاديًا وإجتماعيًا وتربويًا وصحيًا، وهذه أمور يفتقدها المجتمع اللبناني، لأنّه محكوم بطبقة سياسية فاشلة كاذبة، وإذا جاز التعبير، وعفوًا من القارئ الكريم والمُشرف على نشر المقال «طبقة سياسية عاهرة».

 

المجتمع اللبناني بحاجة ماسّة إلى ثقافة سياسية، وعليه الإرتكاز على مفاهيم العلم السياسي في أبوابه النظرية والتطبيقية، وهي تدابير سلمية للصراعات وللتحالفات وفن العيش المشترك، ضمن إطار مفهوم الدولة السيّدة المستقلة. وبصريح العبارة إنّها وسيلة لا غاية أداة للتفكير في صوغ الحلول المجدية لسائر المواضيع والتحدّيات التي تواجه المجتمع اللبناني. ولكي ينجح مجتمع ما، ومنه المجتمع اللبناني، ويحقّق تقدّمه الثقافي الحضاري ومعناه النضالي الحقيقي غير المغتصب، ولأنّ إنتصاره على الفوضى الحالية لا يتحقق من دون إستعادة السياسة لمفاهيمها العلمية الموضوعية وإعادة بنائها في لبنان. لذا، فهذا المجتمع بحاجة ملحّة إلى ثقافة سياسية متجدّدة في بيئته اللبنانية. إنّ الثقافة السياسية اللبنانية السائدة حاليًا تحتاج إلى المساءلة بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها ورأي عامها، لأنّها تمتاز بالجهل والمكابرة والتضليل والتبجيل والثبات على الأخطاء والتستُّرْ على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلاً عن القفز فوق الوقائع والخوف من أي متغيّر، والتعاطي مع أي مستجِّد بالقديم المستهلك على ما هو حاصل حاليًا.

 

يقول العلاّمة الدكتور أنطوان مسرّة في إحدى محاضراته: «إنّ الثقافة السياسية تؤثر في علاقة المواطن بالسلطة، من حيث تحديد الأدوار والأنشطة المتوقعة من السلطة، ومن حيث طبيعة الواجبات التي يتعيّن على المواطن القيام بها... وفي هذا السياق التعريفي، تذهب الكثير من الدراسات للتأكيد على ذلك الإرتباط المفصلي بين الثقافة السياسية والديمقراطية. ذلك أنّ الديمقراطية ليست تعبيرًا عن حقيقة بنيائية ومؤسسية فقط، ولكنها أيضًا مجموعة قيم وإتجاهات ومشاعر تشجع على الممارسة الديمقراطية الفاعلة من جانب الحكّام والمحكومين».

 

في لبنان، ويا للأسف، إختفت الثقافة السياسية منذ أن بدأ حكم «البزنس» والأصهر والزبائنية، وقد تراجع معها دور الطبقة السياسية الواعية، إلى درجة باتت فيها مقاومة المجتمع المتحضِّرْ لهذه السلطة التوتاليتارية ضعيفة، فكانت النتيجة الحروب والفوضى ... هذا النظام القائم والمخالف لأبسط قواعد العلم السياسي، ساهم في تكريس النزاعات المحليّة وعبادة السلطة والثروة المالية والإستهتار بالقوانين ... ومن هنا باتت الحاجة المُلحّة إلى التأكيد على أنّ مشكلة العمل السياسي في الجمهورية اللبنانية المغتصبة، نابعة من مشكلة الثقافة السياسية التي تتصف بغياب الحسّ السياسي السليم المنطقي والموضوعي والقانوني في التعامل مع الإتجاهات السياسية المغايرة، أي غياب القدرة على حل المشكلات، عبر ما يُعرف بالحوار البنّاء والراقي، وغلبة الحدّية في التعامل مع المثقفين بدءًا من التنديد بهم وتهميشهم وإنتهاءً بتخوينهم والقضاء عليهم معنويًا وماديًا ... باحثون وناشطون ومثقفون، من أولى مسلّماتهم ثقافة سياسية جديدة ينشدونها ويتطلعون إليها، هي تلك الثقافة التي تعزز التطور الديمقراطي والحقوقي، وتحول دون بروز منظومات تسعى إلى تجديد الإستبداد القائم من خلال إعادة إنتاج نفس السلطات العفنة.

 

إنّ لبنان بحاجة إلى ثقافة سياسية تعزز الخيارات الديمقراطية في مكوّنات الشعب اللبناني، وتعمل على تهيئة المناخ السياسي السليم، لرفض هذه السياسة القائمة وكمّ الأفواه والعودة إلى ما هو حاليًا من نظام شمولي دكتاتوري الهوية الذي يُلغي المواطنة اللبنانية وحقوقها، ويُحارب كل محاولات التحرّر والإنعتاق من الإضطهاد والقهر السياسي والإجتماعي. الثقافة السياسية إذاً هي عنصر أساس لمجتمع واعٍ يُعيد لبنان إلى دوره الفاعل بين الأمم.. وللبحث صلة.

theme::common.loader_icon