الفلسفة وتأصيل التفكير
الفلسفة وتأصيل التفكير
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Wednesday, 02-Jun-2021 05:29
وظيفة الفلسفة هي صناعة الأسئلة وتثوير العقل، ومن ثمّ الارتياد نحو دروب غير مطروقة. لذلك، لا استغراب من العودة إلى سقراط كلما يكون النقاشُ قائماً عن دور الفلسفة. ومن المعلوم أنّ النشاط الفلسفي منفتح على الشارع ولم يعد قيدَ الفضاء النخبوي مع سقراط، الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وهو أوّل من عَدل عن دراسة الطبيعة ليصرَّ على عدِّ التفكير الفلسفي تفكيراً يهتمّ بالشؤون الإنسانية.
 

كان سقراط يجوبُ بمظهره المتواضع شوارع أثينا، وما ان يصادف أحد المارة في الطريق حتى يسأله عن مفهوم الخير أو العدالة، وأراد بهذا صياغة أفكار جديدة من خلال الحوار. وكان سقراط منعطَفاً في تاريخ الفلسفة لن يدركه الخسوف، حتى أنّ خصمه اللدود «نيتشه» سلك منهجه في مسعاه الفلسفي. وما أضاف بُعداً استثنائياً لشخصية سقراط هو موقفه الأخير، إذ تحمَّل مسؤولية أفكاره الأمر الذي زاد من قيمة ومصداقية تلك الشخصية المؤثرة على مر العصور، هذا ناهيك عن تواضعه، إذ كان يتنزّه عاري القدمين. وفي هذا الصدد يقول كارل ياسبرز إنَّ سقراط «ولد ليكون نكاية بصانع الأحذية». ويبدو أنَّ سقراط كان يتمتّعُ بطبيعة مرحة، وعندما كان يُسأل عن سبب زواجه بامرأة مشاكسة كان يجيب: «على مروّضي الخيول تجربة ترويض أكثر الحيوانات جموحاً».

 

أصبح هذا الفيلسوف رمزاً لحب الحكمة، وما نشرهُ الكاتبُ العراقي «علي حسين» بعنوان «أحفاد سقراط»، يشير إلى ما يعنيه سقراط في مضمار الفكر، فعلى منواله قد طمح الفلاسفة إلى التأسيس لانطلاقات حديثة وفتح ثغرة في جدار العقول المغلقة.

 

النظام الفلسفي

 

يستقيمُ النظام الفلسفي على مبدأ التواصل من دون الإلغاء بخلاف ما هو معروف في المجال العلمي، إذ لا تنشأُ نظرية جديدة إلّا على أنقاض غيرها من الفرضيات السابقة، فيما تنحى الفلسفة في تطوّرها منحىً مختلفاً. صحيح أنّ النقد هو ما ينطلقُ منه كل فيلسوف لإرساء منظومته الفكرية، ولكن هذا لا يعني إعلان نفاد الصلاحية للأفكار والمفاهيم التي يطالها مبضع النقد بقدر ما هو محاولة لاشتقاق مزيد من الأدوات التي ترفدُ عملية النهوض العقلي. ما يعني انَّ الأثر الفلسفي لا يُركَن إلى الرف، وما يدعمُ هذا الرأي هو العودة إلى رواق الفلسفة كلما حلّت أزمة بالعالم أو تفاقمت العقد الوجودية لدى الإنسان. من هنا نفهم فحوى ما نقلهُ علي حسين من مذكّرات ستيفن جوبز، إذ أبدى الأخير استعداده للتنازل عن جميع خبراته التكنولوجية مقابل قضاء أمسية واحدة مع أبيقور. كما أنَّ جاك دورسي، مؤسّس «تويتر»، هو من أشدّ المعجبين بفلسفة صاحب الحديقة. يتناول مؤلف «دعونا نتفلسف» في المقدمة الدوافع وراء الاهتمام بالفلسفة، لافتاً إلى آراء بعض الفلاسفة المعاصرين بهذا الشأن، منهم ميشال أونفري الذي يعزو رواج الفلسفة إلى الأزمات التي أخذت بتلابيب البشرية، وهذا الواقع بحسب رأي أونفري يذكّر بازدهار الفلسفة الأخلاقية والعلاجية إبّان العصر الهيلنستي، الذي شهد تحوّلات كبرى تزامناً مع انهيار الدويلات اليونانية.

 

بدوره، يرى آلان دوبوتون أنّ الشغف بالفلسفة قد ازداد بعدما خلّفت الانهيارات في سوق الائتمان خيبة أمل كبيرة في مستهل الألفية الجديدة. ويحيلنا تفسير دوبوتون إلى ما قاله هيغل انَّ «مينيرفا لا تبدأ في الطيران إلّا بعد أن يرخي الليل سدوله»، وترمز مينيرفا إلى الحكمة. يستفيضُ الكتاب بمعلومات غزيرة عن الفلاسفة الذين لم يكن حضورهم عابراً في التاريخ، ولولا مغامراتهم لَما شهد العقل البشري وثبات على المستوى المعرفي والسياسي والحضاري. وما يجدرُ بالتأمل في ما يسرده علي حسين عن التيارات والشخصيات الفلسفية هو التجاور بين الفلاسفة التي تفصلُ بينهم العصور والحقب الطويلة.

 

الفلسفة في المخدع

 

لا يصعبُ على القارىء تأمّل الخطوط المتقاطعة بين سقراط وكيركغارد. فالأول كان يدعو الناس إلى معرفة حدودهم وقدراتهم، أمّا غاية الفلسفة بالنسبة للفيلسوف الوجودي هي أن يعرفَ الإنسان نفسه بنفسه. ويُدلي سارتر بدلوه في هذا الإطار معترفاً بأنَّه تعلّمَ من سقراط كيف يدخلُ بالفلسفة إلى المخادع. كما تنفتحُ الحلقة الثانية من الكتاب للحديث عن أرسطو ولوك فيري وبيرغسون، وما يجمعُ بين هؤلاء هو الاشتغال على سؤال السعادة. فبنظر المعلّم الأول، يجبُ العمل على أن نكون أحسن وأن نفعل الشيء الصحيح، وهذا ما يجعل الحياة تسير على ما يرام.

 

يدور القسم الثاني عن افتتان الفيلسوف العربي الكندي بسقراط كان موافقاً على ما قاله الأخير انَّ «الحياة التي لم تخض للاختبار لا تستحقُ أن تُعاش». ويرى الكاتب أن الفضل في ترسيم خطوط الفلسفة الإسلامية يعود إلى الكندي الذي حاربه رجال الدين، ما أدّى إلى فشل مشروعه بإنشاء مدرسة لعلوم الفلسفة.

 

يفتتحُ صاحب «سؤال الحب» القسم الذي يفرده لكانط بسؤال مثير: «ما عسانا نصنعُ بكانط في زمن باتمان؟». ومن ثمَّ يضعُ المتلقي أمام المشهد الأخير مع الفيلسوف الألماني، لافتاً إلى ما يتذكره جيرانه بشأن حياته ونمط معيشته. والغريب هو ما يقوله الشاعر الألماني هايني عن حياة فيلسوف التنوير، فبرأيه «حياة كانط لم تكن إلّا حياة رجل أعزب وعجوز فهو كان يضاهي الآلة في تنظيمه مقيماً في شارع هادىء منعزل». ومن جانبه، يؤكّد جان هيرش أنّ كانط هو الذي قد غيّر زوايا نظر الفكر الفلسفي، لذلك ما انفكّ يشغل العالم. وما يشدُّ القارىء في القسم المكرّس لهيغل هو متابعة تفصيلات خاصة بمظهر الفلاسفة، وما يعني لهم الملبس والشكل الخارجي. باستثناء افلاطون، لا يوجد من بين فلاسفة اليونان من كان مهتمّاً بمظهره. ومن المعروف أن ديوجين الكلبي قد قضى أكثر من نصف عمره داخل برميل، مردّداً عبارة «حين تملكُ حياةً داخلية فمن دون شك لن تعود للمكان الذي تعيش فيه أية أهمية».

 

قال كانط عن الأزياء إنها حمقاء، مع ذلك فإنَّ فكرة الأناقة قد شغلته في سنواته الأخيرة، أمّا كارل ماركس فقد أعجبته المعاطف، ورهن معطفه لضيق ذات اليد من أجل وجبة عشاء لعائلته. كذلك، فإنَّ هيغل قد استهواه المعطف ولولا معطفه لضاع كتابه المهم «ظاهريات الروح». وقد شغف رولان بارت بالملابس، فمن وجهة نظره انَّ الملابس تمثّل ظاهرة مرتبطة بالثقافة.

 

بداية مرحة

 

الصورة الرائجة عن الفلسفة انها تبحث عن المثاليات وهي منفصلة عن الواقع، كما أنَّ الفلاسفة يكتفون بتفسير العالم. وبالتالي، انَّ المفاهيم التي يتم نحتها في صومعة أصحاب الفكر لا تفيد الواقع أكثر من ذلك، فإنَّ شخصية الفيلسوف مثيرة للريبة فهي كائن يفتقرُ إلى المرح. وفي الحقيقة انَّ بداية الفلسفة تناقضُ هذا الانطباع السائد، وذلك ما يتطرّق إليه «علي حسين»، فقد صاحَبت الضحكة المحاولات الأولى في درب التفلسف، فيما كان الفليسلوف الأول يمشي متأملاً السماء فإذا به يتعثّر. وما انْ رأت امرأة هذا المشهد حتى أطلقت ضحكة مدوية. وعندما أراد ريمون أرون شرح جوهر الفلسفة الظاهراتية لسارتر، أخبره بأنه سيتمكن من خلال الفينومينولوجيا إنشاء الفلسفة والتحدث عن كوكتيل المشمش في آن واحد. أضف إلى ما سبق، فإنّ مرلوبونتي كان يعلم صديقته مبادىء الوجودية وهما يتراقصان. ما يعني انّ تأصيل التفكير الذي تقومُ به الفلسفة لا يعني غياب المرح. ما يجدر ذكره في هذا المقام أنّ ما يضمّه كتاب «أحفاد سقراط»، وهو قصة غرام بالفلسفة من أرسطو إلى الفليسوف الوجودي ميرلو بونتي من المواد الدسمة عن الفلاسفة وأفكارهم، يزيد القارىء وعياً بأهمية هذا النشاط العقلي وضرورة إدراك وظيفة الفلسفة.

theme::common.loader_icon