يوم يتبخّر الاحتياطيّ الإلزاميّ ...
يوم يتبخّر الاحتياطيّ الإلزاميّ ...
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

بروفيسور في جامعة القدّيس يوسف ببيروت، رئيسة مؤسِّسة لجمعيّة التميّز للأبحاث المبتكرة والاستدامة والتنمية الاقتصاديّة "AXISSED"

Thursday, 27-May-2021 06:11

في الآونة الأخيرة، برزت تساؤلات عديدة في شأن الدعم واحتمال رفعه أم لا، وهل من تداعيات أو مخاوف على الاحتياطيّ الإلزاميّ وتآكله في ظلّ احتمال تبخّر ما تبقّى من أموال المودعين؟ تساؤلات كثيرة بلا إجابات شافية، تزيد من ضبابيّة الحالة اللبنانيّة وكثافتها.

إنّ المراوغة في بعضٍ من هذه الاحتمالات أو تفادي بعضها الآخر، أو التعايش معها أمرٌ ممكن، لكن السؤال الّذي يسكن المواطن الحائر: ماذا لو أنّ جميع الأمور المذكورة أعلاه ستهبط عليه دفعة واحدة؟ بمعنى آخر، ماذا لو كانت الخطّة تهدف إلى رفع الدعم الجزئيّ، ودفع بعض الأموال إلى المودعين، وخفض الاحتياطيّ إلى حين تبخّره بالكامل بعد فترة أقصاها سنتين، هي خطّة ثلاثيّة متزامنة؟

 

قد نظنّ أنّ ما يُطرح أمراً مستحيلاً، طبعاً لا! فإعلان مبادرة مصرف لبنان الجديدة المتعلّقة بإعادة بعض الأموال إلى المودعين ليست بريئة، عندما يقابلها إصرار الحكومة على عدم رفع الدعم من جهة، وإصرار بعض الجهات السياسيّة وغير الحكوميّة على عدم المساس بالاحتياطيّ الإلزاميّ من جهة أُخرى. في سياق مراقبة هذه الحالة نعتقد أنّ ثمّة خطّة احتياليّة تُحاك لاستثمار هذا الاحتياطيّ - الّذي يمثّل في الحقيقة أموال المودعين أنفسهم - لمصلحة المنظومة الحاكمة وضمان استمراريّتها لأطول وقتٍ ممكن إلى حين نفاد كلّ ما لدينا عندهم.

 

بادئ ذي بدءٍ، علينا أن نفهم ما يعني الاحتياطيّ الإلزاميّ: فهو بالتعريف كناية عن نسبة محدّدة من أموال المودعين تُلزَم المصارف في إيداعها في حساباتها لدى البنوك المركزيّة، وهي تشكّل احتياطياً لتلبية طلبات السحوبات النقديّة، ويكون بمثابة ضمانة «ملاءة» للمودعين، فهو هامش الأمان تحسّباً لأي تقلّب. وبلغة أُخرى، هو إجراء احترازيّ يقوم به أيّ بنك مركزيّ لحماية المودعين في حال إفلاس أحد البنوك التجاريّة.

 

أمّا ما تبقّى من أرصدة المودعين فتتصرّف بها البنوك التجاريّة في استثماراتٍ تعود عليها بالأرباح (الفائدة). لذلك، النسبة الّتي يحدّدها البنك المركزيّ (يزيدها أو يُنقصها) تؤدّي دوراً مهماً في التحكّم بالعمليّات الاقتصاديّة وكمّيّات النقد في السوق. وبمعادلة بسيطة، إنّ تقليل نسبة الاحتياطيّ الإلزاميّ سيزيد من كمّيّة النقد لدى البنوك التجاريّة، وبالتالي زيادة مقدرتها على إعطاء القروض للأفراد والشركات، بما يؤدّي إلى ازدياد القوّة الشرائيّة، وفي المقابل تنخفض قيمة العملة. والعكس صحيح، لرفع قيمة العملة المحليّة وحلّ بعض المشاكل الاقتصاديّة قد تلجأ الدولة إلى عكس العمليّة للوصول إلى الغاية المرجوّة بزيادة نسبة الاحتياطيّ الإلزاميّ. لكن السؤال، هل الوسيلة المتّبعة ستحقّق الغاية منها؟ أي، هل سيقترض اللبنانيّ في هذه الظروف الاقتصاديّة بفوائد مرتفعة؟ أم سيلجأ إلى تحرير أمواله المحتجزة ودفنها تحت سابع أرض؟

 

الآن، علينا أن نعرف ما في مبادرة البنك المركزيّ الجديدة: إذ أعلن حاكم مصرف لبنان أنّه يتعاون مع فريق عمله على إطلاق مبادرة تهدف إلى اعتماد آليّة تبدأ المصارف بموجبها تسديد الودائع التي كانت قائمة قبل تاريخ 17 تشرين الأوّل 2019 وكما أصبحت في 31 آذار 2021، على نحو تدريجيّ، وذلك بالعملات كافّة. طبعاً، ستُسدَّد بعض من هذه الودائع ممّا تبقّى من الاحتياطيّ الإلزاميّ، بحجّة إراحة اللبنانيّين ضمن القوانين والأصول التي ترعى عمل مصرف لبنان. ولتحقيق هذه الغاية، طلب الأخير من المصارف تزويده بالمعطيات، ليحضِّر برنامج دفع مقسّط ولفترة زمنيّة محدّدة لمبالغ قد تصل إلى 25 ألف دولار أميركيّ، أو ما يعادلها بأيّ عملة أجنبيّة، إضافة إلى ما يساويها بالليرة اللبنانيّة.

 

خلاصة لِما أوردناه، نستطيع أن نستنتج أنّ أوّل حصّة من الاحتياطيّ الإلزاميّ ستذهب إلى المودعين وهذا أمر منطقيّ وصالح بالمطلق، ولكن هل يشكّل ثمن سكوتهم لفترة أطول؟ لأنّ هكذا خطّة من دون أيّ اصلاح وفي ظلّ «تعميم» الفساد، لا تعني شيئاً على المدى المتوسّط، ويبقى الغموض يلفّ مستقبل الحصّة المتبقيّة من الاحتياطيّ الإلزاميّ.

 

على ما يبدو أنّ ثمّة توجّهًا مبطّنًا لتخفيض نسبة الاحتياطي الإلزاميّ. إذ هناك اجتهادات كثيرة عن أحقّيّة مصرف لبنان في التصرّف بالاحتياطي الإلزاميّ، وفق ما جاء في التعاميم الصادرة عنه أهمّها: «تُحدّد الالتزامات بالليرات اللبنانيّة الخاضعة للاحتياطيّ الإلزاميّ بعناصر الوضعيّة الشهريّة، موزّعة بين التزامات تحت الطلب والتزامات لأجل» (التعميم 84، المادّة 1). كذلك، «يُطلب إلى المصارف تزويد كلّ من مديريّة الإحصاءات والأبحاث الاقتصاديّة ومديرية المصارف - مصلحة مركزيّة المخاطر في مصرف لبنان أسبوعياً ببيان عن متوسّط الالتزامات بالليرات اللبنانيّة الخاضعة للاحتياطيّ الإلزاميّ» (التعميم 84، المادّة 2). بالإضافة إلى أنّه: «يمكن لمصرف لبنان تطبيق قواعد مختلفة عن تلك المنصوص عليها [...] من هذا القرار على أيّ مصرف، إذا تبيّن أنّ وضعه يستلزم تدابير خاصّة». (التعميم 84، المادّة 2).

 

كذلك ما يخصّ التوظيفات الإلزاميّة، خصوصاً ما ورد في التعميم رقم 86: «على المصارف كافّة العاملة في لبنان أن تودع لدى مصرف لبنان، لقاء الفوائد الّتي يمنحها هذا الأخير على الودائع لديه لأجل بالعملات الأجنبيّة، نسبة 15٪» (التعميم 86، المادّة 1). وتشمل هذه العناصر جميع أنواع الودائع الّتي تتلقاها المصارف مهما كانت طبيعتها. وأيضاً، سندات الدين وشهادات الإيداع والشهادات المصرفيّة والقروض. بالإضافة إلى أنّه: «يستوفي مصرف لبنان من المصارف الّتي لا تتقيّد بموجب إيداع الاحتياطيّ الأدنى الخاصّ... فائدة جزائيّة» (التعميم 86، المادّة 4). وكلّ ما يخصّ المادّتين 76 و77 من قانون النقد والتسليف وأحكام النصوص التنظيميّة الصادرة عن مصرف لبنان بهذا الشأن.

 

ولكن، بما أنّ مصرف لبنان هو من يُحدّد النسبة المئويّة للتوظيفات الإلزاميّة من مجمل الودائع بالعملات الأجنبيّة، فقد يلجأ المركزيّ تحت الضغط إلى خفض هذه النسبة الحاليّة من 15٪ إلى 12٪ ومن ثمّ إلى 10٪ أو حتّى إلى ما دون هذه النسب، بحسب إستراتيجيّة السوق المفتوحة. وفي الوقت نفسه، يهدّد كثيرون بخطورة رفع الدعم الكلّيّ والجزئيّ على تغطية المستلزمات الأساسيّة، مثل: الدواء، والمحروقات، والكهرباء، والمواد الغذائيّة الأوّليّة، إلخ...

 

قد نتخيّل أنّ الصورة واضحة، لكنّها فعليا تزداد غشاوةً، فالهدف يكمن في غشّ المواطن والمودع والمستثمر، من خلال تنفيذ خطّة كما وصفت أعلاه بالاحتياليّة لمصلحة السلطة الحاكمة لا سواها. يبدو أنّ المخطّط يُحاك بتكافل حاكم مصرف لبنان مع الحكومة المستقيلة ومن لفّ لفيفها والتضامن معها. فهم يريدون الإيحاء للشعب بأنّهم قد بدأوا تسديد ودائعه لفترة قصيرة، وفي الوقت نفسه يغطّون حاكم مصرف لبنان في قراره المتعلّق بتخفيض نسبة الاحتياطيّ على فترات ونسب معيّنة، ليستعملوا ما يتمّ تحريره لخدمة احتياجات الدولة وما تبقّى من الدعم. فالمنظومة الحاكمة تعتقد أنّ سير الأمور على هذا الحال يضمن لها استمراريّة أطول، إلى حين انتهاء العهد، بما قد ينتج من انخفاض مؤقّت لسعر الصرف من خلال تحرير بعض الدولارات للمودعين، والإبقاء على الدعم الجزئيّ في الوقت عينه.

 

ولكن، يوماً ما، مع اقتراب نهاية العهد، ستزول ضبابيّة المشهد الماليّ الاقتصاديّ، لأنّه بكلّ بساطة ستجد الطبقة الحاكمة أنّ احتياطها من الخدع والفبركات قد نفد، وخوفنا أن يكون قد نفد معه الاحتياطيّ الإلزاميّ. حينها سنكون أمام الحقيقة الصافية، ونجد أنّ إستراتيجيّة السوق المفتوحة كانت مجرّد قناع يُخبّئ إستراتيجيّة أُخرى هي سياسة الأرض المحروقة، أرض عندما نستعيدها ستكون بوراً، ولكن كيف للمستثمر أن يرجو خيراً في أرضٍ فقدت خصوبتها بفقدانها عوامل الثقة والتحفيز والانتاجيّة؟

theme::common.loader_icon