«لعنةُ الفراعنة» لأنيس منصور تنوّعَ الموتُ واللعنةُ واحدة
«لعنةُ الفراعنة» لأنيس منصور تنوّعَ الموتُ واللعنةُ واحدة
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Tuesday, 13-Apr-2021 06:31
يخترقُ أنيس منصور في كتابة «لعنةُ الفراعنة» حجبَ الشعوذةِ الحضاريّة التي توارثها الفراعنة عبر الأسر المتعاقبةِ على حكم مصر، ويوغلُ في مرايا التّاريخ محوّقاً أسئلته في دائرةِ التساؤلات الملحّة حول حقيقةِ وجودِ لعنةِ الفراعنة مع البراهينِ والإثباتاتِ التي تجمهرتْ حول موتِ منقبّي الآثار ومكتشفي جثث الملوك الفراعنة بطريقة ٍغامضةٍ تثيرُ حولها الشكَّ والرّيبةَ والتوغّل في عمقِ الرسالةِ التي ينضحُ بلّورُها بحكمةٍ قديمةٍ آمن بها الكهنةُ الفراعنة، تقضي بأن يموتَ كلّ من يمسّ مومياءَ الملكِ الراحل وحاشيته بطريقةٍ أليمةٍ ومخزية.
 

يبدأ الكاتبُ منصور بحكاية الملك توت عنخ آمون، الذي أكّد أخّيراً عالمُ الآثار المصريّ زاهي حوّاس، أنّ الملك لم يتعرّض جسده للهجوم والضرب الذي أدّى إلى وفاته كما أشيع، بل إنّ موتَه ناجمٌ عن إصابته بمرض الملاريا بالإضافة إلى دسِّ السمّ له، وقد حكم بلاد مصر عندما كان في التاسعة من عمره وحتّى بلغ الثامنة عشرة، وكشف غرفة دفنه في مقبرة وادي الملوك إثنان من العلماء الإنكليز وهما كارتر واللورد كارترفون.

 

اللعنة

 

يقولُ منصور: «دعونا في المقدمة نطرح بعض الاسئلة ؟ هل هي اللعنة التي تطارد الناس؟ أم هل هم الناس الذين يطاردون اللعنة؟ احتار العلماء فى تفسير هذه الظاهرة العجيبة، ولكن عالماً المانيّاً شابّاً أعاد النظر فى قضيّةِ هذا العصر وكلّ العصور، ليفسّر لنا بالعقل والطب والكيمياء كيف أنّ 40 عالماً وباحثاً، ماتوا قبل الأوان والسبب هو هذا الملك الشاب ويدعى توت عنخ أمون».

 

استندَ منصور لتحليلٍ مفصّلٍ للكاتب الألمانيّ فيليب فاندنبرغ في طريقة موت هذين العالمين الغريبة واللامنطقيّة، اللّذين لم يتنبّها لخطورةِ الإقترابِ من ملكٍ تخشّب جبروته وقوّته مع جماد موميائه التي أعادها إلى الحياة انفتاحُ باب المقبرة، حسب طرح الأخير.

 

وكانت كتابةٌ فرعونيّةٌ خطيرةٌ قد كُتبت على أحد أبواب المدفن تقول: «سوف يطوي الموتُ بجناحيهِ كلَّ من يقلقُ الملك». وربّما ساور القلقُ الإثنين وخصوصاً كارتر، ولكنّهما تحاشيا التفكير العميق في ما رمى إليه الكهنةُ الذين قاموا بتحنيط ودفن ملكهم، ثمّ ما لبث أن عثرَ أحدهما على كتابةٍ أخرى منقوشة على ظهر أحد التماثيل تقول: «أنا الذي أطردُ لصوصَ المقبرة، وألقي بهم في جهنّم هذه الصحراء، أنا حامي توت عنخ آمون».

 

تحذيران في مقبرةٍ واحدة حسب تعبير منصور، وهو أمرٌ يدعو للعجب، لأنّ تاريخَ الفراعنة لا يحفلُ باللعناتِ الكثيرة التي تحذّرُ وتُسطّرُ وتكبّرُ الأمور وتنذرُ بالويلات كما ينصُّ كتاب التوراة، بل هي قليلة ونادرة في تاريخ مُلْكِ الفراعنة، منها مثلاً عندما توّجَ تحتمس الأوّل ابنته الملكة حتشبسوت وألقى خطاب العرش الذي يتضمّنُ عبارة : «اللعنة على من يلعنُ الملك».

 

اللورد كارترفرون أصابته حمى عنيفة أدّت إلى مصرعه وكان يهذي وهو يحتضرُ قائلاً، بأنّه يرى أناساً يدحرجونه على رمال الصحراء، ويعصرون النّارَ في فمه. وعند حضور ابنه من الهند لرؤيته وهو في النزع الأخير انقطع التيّارُ الكهربائيُّ في اللحظة نفسِها في مدينة القاهرة بأسرها، من دونِ مبرّر، وفي الوقت نفسه مات كلبُ اللورد بعيداً في بريطانيا وهو يقفزُ ويئنُّ خوفاً فوق سرير صاحبه، وعندما هرعَ أهلُ الدّارِ لاستطلاع الأمر، سقطتْ منضدةٌ ضخمةٌ على قطّة اللورد السوداء فماتت من فورها، وتلتها زوجةُ اللورد التي ماتت من لسعةِ حشرةٍ بينما كانت تلازمه في رحلته الأخيرة نحو حتفه المؤسف، ومات بعدها بأيّام سكرتيره الخاص وعندما علم والد السكرتير بموته انتحر من فوره.

 

أحداثٌ متتاليةٌ تعاقبت، فقد مات كلُّ من شهدَ أو عاونَ في حفر مقبرة توت عنخ آمون بطريقةٍ مأساويّةٍ أقرب إلى الخيال، ومن ضمنهم طبيبُ الأشعّة أرشيبالد رون الذي أشرف على قطع خيوط التابوت وتصوير جثّة الملك.

 

تاريخ حافل بالغرائب

 

وقد كان تاريخ توت عنخ آمون حافلاً بالغرائب غاصّاً بالوقائع الهامّة التي يدلّنا عليها الزمن الغابر، فهو ابن الملك أخناتون الذي كان قد تزوّج وأنجب ثلاث بنات، ممّا حدا به أن يتزوّج شقيقته سرّاً لتنجب له وليّ العهد، وكان توت هو نتيجة هذا الزواج غير الشرعي.

 

ولم يكن هذا الأمرُ محظوراً في ذلك الوقت، إذ أنّ حِرْصَ الملوك على نقاء الدم يدفعهم لهذا النوع من الزيجات، وقد جاءت كلمة «أخت» في اللغة الهيروغليفيّة بمعنى معشوقة للدلالة على أهميّتها.

 

وبعد أن قتل الملك توت، تزوّج الملك «آي» أرملته رغماً عنها، وبالإكراه والإلحاح وتدبير المؤامرات، وكان طبعه ينزع إلى الشرّ ويضمر الكراهية، فبادر إلى تحطيم جميع الأصنام التي تمتّ للملك توت بصلة، ولكنّه استثنى قبره خوفاً من تعويذة الموت التي نصبها الكهنةُ على قبر الأخير وإيماناً باتّقادها المستطير، وليس حبّاً به.

 

الهلوسة

 

لقد كان فراعنة مصر يمثّلون الآلهة المختارة في الأرض، فالملك رمزٌ كبيرٌ مؤّله بالنسبة لشعبه يعلم الغيب ويجلو الألغاز وينظّم سير الطبيعة ويسبر غور المجهول، وفي حقيقة الأمر أنّه كان محاطاً بموكبٍ لا يُستهانُ به من العلماء والكهنة والأطبّاء الذين يجودون عليه بما أحرزوه من تقدّمٍ في العلم والطبّ وأحوال الطّقس وموعد فيضان النّيل استناداً إلى نجمة «الشعرى اليمانية»، ممّا يحرّك نوازع الإعجاب والتقدير والتقديس في نفوس الشعب البسيط، فيخالونه ملكاً إلهاً أسبغت عليه الطبيعةُ بما لم تجد عليهم من بصرٍ وبصيرة.

 

في الجهة الأخرى، يعرضُ منصور النظريّةَ العلميّةَ لما يسمّى بلعنة الفراعنة، ذاكراً مصادر تحليليّة للطبيب الألماني «فلهلم» الذي يؤكّد بأنّ لكلّ إنسانٍ دورة حيويّة شهريّة وفي هذه الدورة تكون له بدنيّة وحسيّة، وعندما تكونُ تلك الدورة في أحطّ درجاتها وحالاتها ذروة وتفاعلاً، فإنّ الإيحاء الذاتي المشجّع للموت يكون حاضراً بشكلٍ ملح. وعلّل موت العلماء الذين كانوا حاضرين في فتح مقبرة توت عنخ آمون وغيره من المومياوات الملوك، على أنّ الفراعنة كانوا يلجأون إلى العقاقير التي تحتوي على مواد الهلوسة، التي يدهنون بها الجثّة عند التحنيط، بالإضافة إلى البكتيريا الضارّة التي يؤدّي لمسها إلى الهلاك، وهذا ما يفسّرُ تفشّي الهذيان بين منقّبي المومياوات ثمّ وفاتهم بعد أيّامٍ قليلة بطريقةٍ دراماتيكّية.

 

بين السّحر والعلم، تعويذةٌ موحّدةٌ لخّصها الفيلسوف أفلاطون في كتابه «تيماروس» في أنّ الجميعَ أطفالٌ إذا ما قورنوا بما لدى المصريّين القدماء من علم، فقد كانت حضارتهم شاملة وارفة وافرة، احتفظوا بها في المعابد والمقابر ولم يسرّبوا سرّ أحجيتها أو يكشفوا اللثامَ عن وجهِ أصولها وجذورها، وقد استندَ أنيس منصور في كتابة «لعنة الفراعنة» إلى التحليلِ الواقعي وعرض الحقائق وفكّ الحصار عن اللغزِ الكامنِ حول ملوك ضفاف النّيل، مستعرضاً التحليل الروحيّ والعلميّ، وبين الحقيقة والخيال تنوّع الموتُ واللعنةُ واحدة.

theme::common.loader_icon