مَن يقارب مؤلفات محمد شكري يفهم أن لا شيء من وجهة نظره جدير بأنْ تضحّي بحياتك من أجله، فهو قد اقتحم الحياة من بوابة البؤس، لكن ذلك لم يمنعه من اختيار مذهب من فلسفة الأبيقورية التي تعالج الآلام بالإنغماس في اللذّة. حياة محمد شكري كانت صخبة بالحوادث ومليئة بالتجارب القاسية، لذلك وقف ضدّ كل الايدولوجيات لكي يصوغ من مفهوم التمرّد آيدولوجيته المجرّدة من الأنساق والأفكار الملزمة، بحيثُ ينطبقُ مصطلح اللاالتزام على شكل كتاباته، ولا يُدرجُ ما نشره صاحب «السوق الداخلي» ضمن الواقعية التسجيلية، لأنَّ الأوضاع والأصوات والمعاني والحركات المعاشة أو المتخيّلة برأي محمد شكري ليست هي نفسها حين تستعاد فنيّاً.
لا تقيّد ولا التزام
واللافت في بعض الاشتغالات النقدية لأعمال محمد شكري هو عدم التقيّد بإرساليات العلامة التجنسية، باعتبار أنَّ ذلك ليس إلّا اجراءً شكلياً. صحيح يوجد تطابق بين المؤلف والراوي والتعفّف من المراوغة، والوقوع على الإشارات الزمنية المرتبطة بحياة الكاتب الشخصية، لكن هذا لا يعني غياب السؤال بشأن ما قدّمه صاحب «وجوه» رواية أو سيرة ذاتية أو رواية سيرية اندمج فيها التخييل مع وقائع حياتية.
وإلى جانب ذلك، دار النقاشُ حول تسمية الأسلوب الذي تبنّاهُ محمد شكري ومَنْ حذا حَذْوه في الكتابة. هناك من يطلق عليه تسمية الرواية الشطارية أو أحياناً يُعرفُ بالأدب الاحتيالي أو بالكتابة الصعلوكية. وأياً كانت التسمية، فالأمر لا يعدو اجتهاداً لغوياً، كما أنَّ المرجع الأساسي بالنسبة لهذا الجنس الهجين هو الواقع وتجارب الحياة الشخصية، وهذه العناصر حاضرة في أدب محمد شكري لأنَّ الأخير كما أشار كمال الرياحي قد اتخذ حياته مرجعاً لما قدّمه من الشعر والرواية والقصة.
مغامرة المعرفة
يُكملُ محمد شكري في «الشُطار» ما بدأه في مُؤَلّفِه السابق «الخبز الحافي»، غير أنّه يركّز في عمله الأخير على مرحلة دخوله سنّ النضج، حيث يفارق مدينته الفاضلة «طنجة» ويبدأُ مغامراته في اكتساب المعرفة، وكيف احتمل المهانة من أحد المدرّسين لكي لا يُضَيعَّ فرصته. وهو يعترف بأنَّه قد استفاد من الطلّاب وتعلّم منهم أكثر من المعلّمين، إذ تعلم من الكسيح مبادىء الرياضيات، وقرأ مع مختار الحدّاد أعمالا أدبية مثل «مدامع العُشّاق الثلاث» لزكي مبارك، و»البؤساء» لفيكتور هيغو. ومن هنا يقتنع محمد شكري بما توصَّل إليه واسْتَنْتَجهُ آرثر رامبو بأن ليس من الخير أنْ نبلي سراويلنا على كرسي الدراسة. وكما فضّل شكري إدراك الحياة من دون وجود موانع فكرية واعتقادية بينه وبين الواقع، كذلك فقد أراد أن تكون منافذ ذهنه وذوقه مشرّعة على مصادر المعرفة بمختلف أجناسها وأشكالها. وهكذا تحفل رواية «الشطار» بأسماء مشاهير الفن والأدب، وعندما يرى شكري أحد الأدباء محاطاً بالمعجبين يُسارع إلى شراء أعماله ويبدأ بِقراءتها حيث يقول: «لقد أسرتُ لنفسي بأن ما أقرأه سهل ولا وجود لما يمنعني أن آتي بمثله».
وفي هذا الملفوظ ما يَضْمر رغبة بتحطيم صورة النخبة وسلخها من الأدوات التي تقيم بها متاريس بينها وبين ما عُرفَ بالهوامش. وفعل القراءة لدى محمد شكري سيتحوّل إلى هوس بحيث يُوصم بالمجنون عندما يجدونه متوسّداً كتبه في محطّة الحافلات.
معجم العربدة
لا يختلف نمط حياة شكري عن الظروف التي عاشها رامبو، وبودلير، وتشارلز بوكوفسكي، وفان غوغ، بل تتقاطع حياته مع معيشة بوكوفسكي على عدّة مستويات. كلاهما مُتخاصم مع الأب، كما عالج الإثنان المرارة والتشرّد بنوع من العربدة. فضلاً عن ذلك، فقد ذاق كلّ منهما الحرمان من الحب، ولم يتقيّدا بأسلوب كتابة أو بمجال إبداعي معيّن، بل هناك رغبة لدى الإثنين للامتداد نحو أجناس أدبية أخرى غير رواية سيرية، كما أنَّ البيئات التي ألهمتهما متشابهةً، فهي الحانات والمقاهي والأسواق الشعبية والموانئ، فتسرّبت المصطلحات والملفوظات من تلك البئيات إلى مضمون أعمالهما. وبذلك، يسير شكري وبوكوفسكي على خط ما اشْتُهرَ في أميركا بتيّار الواقعية القذرة، حيث يستمدُّ أنصار هذا التيار، بحسب وجهة نظر الباحثة هويدا صالح، من قاع المُجْتَمَع والمدنِ الكُبرى مادتهم، ويتناولون كلّ الظواهر التي يخشى الناسُ الكشف عنها لأسباب سياسية واجتماعية وأخلاقية.
اقتحام المجهول
لم يتردّد محمد شكري في اقتحام كل البيئات المنسية، بما فيها المصحّات، فقد عايَش المجانين والمعتوهين وشهد ما يضمّ هذا العالم من سلوكيات غريبة ورغبات دفينة. زدْ على ذلك، فإنَّ محمد شكري يعرض في أعماله قصصاً مؤثرة لشخصيات مطمورة، ويروي تجارب مأساوية ليكْشف للقارئ حجم الغبن الذي يمارسه المجتمع ضد فئة معيّنة من البشر، كما نلمس حسّاً إنسانياً رفيعاً عند هؤلاء المنسيين على نقيض ما طبع في الأذهان من صور نمطية عنهم.
الإحتجاج الإيروتيكي
يقول الناقد الأميركي جيسي ماتز إنّ سطوة الإيروتيكية في الروايات الحديثة جاءت كوسيلةٍ لتحدّي الأعراف الإجتماعية التقليدية، ولجعل الرواية الحديثة أكثر انفتاحاً على الواقع.
ويصحّ هذا التصوّر لفهم أسلوب محمد شكري في تناول موضوع الجنس في رواياته. فهو لا يهدف إلى الإثارة من خلال التوغل في هذا الجانب الحميمي لدى الإنسان، بقدر ما يسعى إلى تبيان صورة حقيقية للحياة التي نتغافل رؤيتها. ويشير الناقد صبري حافظ إلى أنّ صراحة محمد شكري وأُسلوبه المباشر وسيلة للتخلّص من كل إثارة وشبهة للإثارة. كما أنَّ الإحساس بالبعد الجمالي في جسد الأنثى يسبق الفعل الإيروتيكي لدى شكري، وذلك ما يَتّضِح في تَعَفُّفه من كنزة وهي في حال الهمود الجمالي. لذلك، لا يجوز اختزال أدب شكري فيما ينتشر على مساحته من عبارات ومفردات صادمة، لأن الأخير قد صوّر الواقع بما يتجاور المُتناقضات، ولم يتبع أسلوباً إنتقائياً محتشماً.
مدينة فاضلة
من المعروف أن محمد شكري قد تنقّلَ بين عدّة مدن وأماكن، لكن ظلّت طنجة مدينته الفاضلة، بحيث غَدت أيقونة حياته. فهو كلّما ضاقت به السُبل وغاب كلما اشتهتها. وفي هذا الجانب، يلتقي محمد شكري مع بوكوفسكي من جديد، فلوس أنجلوس احتضنت مغامرات بوكوفسكي وتهوّره.
وما نستخرجه من أعمال محمد شكري أنه قد استنفد عصارة الحياة، فهو لم يجدْ شيئاً يفوق الحياة قيمةً ولم يردْ تغير الحياة بل اتّبع نصيحة أبيقور الذي أوصى بتغيير نظرتنا إلى الحياة إذا كنا عاجزين عن تغييرها. وبذلك، تجاهل محمد شكري الإلتواءات والتعقيدات الفلسفية والتراوح في وهم الخلود أو الانجرار وراء فذلكات مضيعة المتعة والإدراك الجمالي، وكان الفنّ بالنسبة له عبارة عن محاولة دؤوبة للقبض على ما يفلت من الحياة، كما أن الموت ليس غياباً جسدياً لدى محمد شكري إنما هو أن يفترسَ بك الأحياءُ، كما قال سارتر.