القيامة السردية في رواية «وشم الطائر»
القيامة السردية في رواية «وشم الطائر»
كه يلان محمد
Thursday, 25-Mar-2021 06:19

الغاية من كتابة الرواية ليست توثيق الحدث فحسب أو سد الثغرة التي تصاحبُ التدوين التاريخي بل الوصول إلى الجزء غير المكتوب للعالم بحسب رأي «كارلوس فونتيس»، وهذا الجزء عبارة عن مساحة لامتناهية. وبالتالي، تصبحُ قراءة الأعمال الروائية بحثاً دؤوباً عن كل ما لا يتسعُ له التاريخ الرسمي أو الصياغات التعبيرية السائدة أو الخطابات المهيمنة، ومن هنا نفهمُ لماذا يكونُ السرد الروائي مواكباً للكوارث التي تحلُ بالبشرية.

السرد الروائي هو بمثابة آليةٍ لإعادة تشكيل الهوية بناءً على مخزون الذاكرة، وبذلك يصبحُ السردُ قيامة جديدة مقابل الكينونة المفقودة في الواقع. بمعنى أنَّ التحصّن بالرواية يعادلُ ميلاداً داخل اللغة. ويمكن التأكّد من صحة هذا الافتراض أكثر عندما تتفاعلُ النصوص الروائية مع المكوّنات التي قد يخسرُ أفرادها الخصوصية والقيَم الاجتماعية المائزة جرّاء تفاقم ظاهرة العنف، تماماً كما وقع للأقليات خلال تمدّد داعش. وفي الحقيقة نزلت هذه الآفة المفترسة على المنطقة بأكملها، لكن لا مجال للإنكار بأنَّ ثمة مكوّناً قد عانى وَيلها أكثر، لذا فمن الطبيعي أن يكون له حصّة أوفر في الروايات التي تتناول الخراب الناجم عن المشيئة الإلغائية، ويتمّ تعويض عدمية الواقع بإنتاج المعنى في السياق السردي، مثلما نجدُ في رواية «وشم الطائر» للكاتبة العراقية دنيا ميخائيل، إذ تتحولُ الجغرافيا المنكوبة إلى مسرح الحدث، وينطلقُ السردُ من اللحظة التي يبسطُ فيها الارهابُ سلطتهُ على رقاب الجميع وتبدأُ حفلة الاغتصاب، ويتحوّلُ مبنى المدرسة إلى سوق لبيع النساء إذ يتمُ تحضير السبايا للعرض بأزياء تناقضُ ما يفرضه أعضاء التنظيم على النساء في الواقع.

 

الدوّامة

تستعيدُ هيلين، التي يتموقعُ الراوي موضعها للاسترسال في سرد الأحداث، صورة المدرسة التي درست فيها مع أخيها التوأم آزاد، ولا يعبّرُ شيء عن جرح النساء المقهورات كالوجوه المتلبّدة بالحزن، والنظرات المتبادلة بين العيون الحسيرة. وحينَ ترهقُ الروحُ لن تكون الحياة سوى مشاهدة لمأساة قائمة، لذا تحاول ريحانة أن تنتحرَ لأنها لم تعد تحتمل رؤية هذا النزيف في الروح والإفلاس القيمي. أخيراً تنطفىء حياةُ تلك المرأة التي حلّت مكان الأم بالنسبة لـ»ليلى» وهي تنقطعُ عن الكلام حزناً على ريحانة. تفارقُ هيلين بنات جنسها وتُرغمُ على الزواج من «أبو تحسين»، غير أنّ الأخير يتخلّى عن غنيمته ويعيدها إلى ساحة المدرسة معلناً بأنها لا تصلحُ له، ومن ثمَّ يشتريها عياش القادم من فرنسا وهو أحسن المتناوبين على شرائها. لا تنصرفُ عدسةُ السرد عن هيلين وهي تمضي أيامها عند عياش، إذ انها كانت مقيمة ببيت تركه أصحابه، وهناك وجدت ألبوم الصور لأفراد الأسرة كما عثرت على نسخة من مجلة «نينوى» التي نشرتْ على صفحاتها مقالة لإلياس، وهذا ما أبعد ذهنها مؤقتاً عن المكان المختنق. ومن ثمَّ تلتقي هيلين بالمرأة التي تشاركها الإقامة في المكان، ويتخذُ السردُ في هذا السياق صيغة خبرية كاشفاً عن المجازر التي شهدها زيدو، كما يعلنُ الراوي عن فكرة الهروب التي تراودُ كلّاً من غزال وهيلين، لكن مقتل عياش يضعُ هيلين أمام مصير آخر. إلى هنا تغيبُ أخبار الحاضر البائس وتتحوّلُ آلة السرد نحو الماضي عن طريق الاسترجاع، إذ يستبطنُ الراوي كلّي العلم سرائر هيلين راصداً الصور التي تتوالى في ذهنها. وفيما تستمرُ الدوّامة، تتداعى ذكرياتها متأملةً وشم الطائر على اصبعها، وفي هذا المفصل يتوغلُ السردُ في البيئة التي نشأت فيها هيلين مع الإبانة عن خصوصية الأعراف والتقاليد ونمط المعيشة في قريتها حليقي، ويأتي ذلك بموازاة استعادة قصة الحب التي تضيفُ نكهة رومانسية إلى بنية الرواية، إذ يبدأُ التواصل بين إلياس وهيلين عندما تطلقُ الأخيرة سراح الطائر الذي كان يترقّبُ القادم من الموصل وقوعه في الفخ. تنتظمُ ثيمة الحب في متن الرواية، وتمتدُ على مدار الحركة السردية. لا تمانعُ هيلين الإنتقال إلى المدينة وتتكفّلُ برعاية يحيى الذي فارقت أمه الحياة، وهكذا تصبحُ ثنائية إلياس وهيلين حلقةً سردية تنسلُّ منها حلقات أخرى، كما تنبسطُ دلالة العنوان ضمن هذه الجزئيات المُتداخلة بآلية التناول للقيَم التي تمثّلُ حزاماً حامياً للأقلية الإيزيدية. زدْ على ما سبق، تتوارد الإشارات إلى الحروب التي تركت ندوباً غائرة على ذاكرة العراقيين.

 

طينة النصّ

تمكّنت دنيا مخائيل من تطويع المعتقدات الشعبية في حياكة نصها الروائي، وذلك يخدمُ عملها ويكونُ النص متغلغلاً أكثر في طينة البيئة. كما تكتسبُ بنيتهُ مرونة لاستضافة مزيد من المرويات إذ يتمُ التطرقُ على هذا الصعيد إلى هجمة هولاكو على بغداد، والإحالة إلى القصص الموجودة في ذاكرة المكان، مثل قصة خنسي ورشو، هذا ناهيك عن التلميح إلى إبادة الإيزيديين في تركيا إبّان العهد العثماني. والأهمُ في هذا الصدد هو تحبيك الميثولوجيا بلحمة الرواية، وذلك من خلال التوازي القائم بين ظاهرة خسوف القمر بالتحوّلات التي تشهدها الحياة، كلّما يقتربُ موعد الخسوف يستنفرُ الجميعُ ويقرعون القدور والصواني لتخويف الحوت الذي ما أن يسمعَ الأصوات حتى يهرب تاركاً القمر. قرر إلياس وهيلين استبدال خاتم الزواج بالوشم لأنَّ ضياع الخاتم بحسب معتقدات القرية يؤشّرُ إلى فراق الزوجين، لكن هذا الإحتياط المسبق لا يحولُ دون انفصالهما إذ يتمّ غزو المدينة، ويقعُ إلياس رهينة لدى المسلحين في بناية المجلّة التي تتحول إلى السجن، وبذلك تتبدّلُ أنماط الحياة وما عاد المكان كما عهده أهله. وعندما ينفدُ صبر هيلين تخرجُ بحثاً عن أثر زوجها من دون أن تدري بأنَّ ذلك يكلّفها الحرمان من ابنتها الرضيعة والضياع في المتاهة.

 

لا يقف التوحّش عند ذبح المخالف في المعتقد وسلعنة جسد النساء، بل يطالُ المعالم التاريخية والدينية. إذ تذكّر أجواء قرية المهتدين كما وصفتها الكاتبة بأوشفيتز النازي، حيث يرتبطُ مصير المعتقلين بمزاج المُسلحين. ومن الظواهر التي ترافق الحروب والصراعات هي تهريب البشر، وذلك ما خصصت له الكاتبة أقساماً من الرواية. إذ ينحوُ السرد منحى بوليسياً في هذا السياق، وتتصاعدُ الشحنات الدرامية الأمر الذي يشدُّ القارىء إلى سلسلة السرد حيثُ تتخذُ عملية إنقاذ كل رهينة مواصفات قصة مُستقلة، وبذلك يزداد زخم الأحداث وتشويقها مع مضي السرد كما تتوفر في بعض المقاطع مكونات الخطاب السردي بأكملها، الراوي والمادة المروية والمروي له، وهذا ما تلمسه بوضوح عندما يسردُ عبدالله قصة إنقاذ سهام بواسطة محشش الذي تُضاف قصته المطعّمة بطابع مزيج من الرومانسية والفكاهة إلى معطيات المادة المسرودة. تفوقت الكاتبة في إدارة شخصياتها الروائية وتصميم حركتها بما يزيدُ من تماسك مفاصل النص، كما أنَّ إرجاء كشف مصير إلياس الذي يذبح على رؤوس الأشهاد وربط ذلك بقرار كل من يحيى وياسر بالإنشقاق من صفوف داعش كان دافعاً للتفاعل مع النص أكثر. قبل أنْ تقفل الروايةُ ينفتحُ السردُ للجوء هيلين إلى كندا، واللافت في القسم الأخير هو ملامح المرأة التي تشغل ذهن هيلين وتذكّرها بوجوه رأتها في ألبوم الصور في الموصل. فالمطلوب من كل عمل سردي هو تشكيل هويته بناءً على الصياغة الأسلوبية والمحتوى. تمتازُ رواية وشم الطائر بسلاسة في الإنتقال والتمكّن في ترتيب الشخصيات زيادة على ما أسلف ذكره، فإنَّ قيمة العمل تكمنُ في تقديم جغرافيا أصبحت مسكونة بقلق وجودي بعدما عصفت بها رياح التطرف.

theme::common.loader_icon