المنصّة بين مطرقة السياسة وسندان السوق السوداء
المنصّة بين مطرقة السياسة وسندان السوق السوداء
د. جو سرّوع
Wednesday, 24-Mar-2021 06:46

أطلق مصرف لبنان في 26 حزيران الماضي «منصّة صيرفة»، تتألّف من المصرف المركزي والمصارف والصيارفة، وذلك للتداول بالنقد الأجنبي، مهمتها القضاء على المضاربات وتهميش السوق السوداء.

 

حدّدت هذه المنصّة سعر شراء للدولار عند الصرافين بـ 3850 ومبيع بـ 3900. هذه المنصّة لم تفشل فقط في تحقيق أهدافها، بل نَزفت دولاراً عزيزاً، وسجّلت تفرّد السوق السوداء في تسعير الدولار الأميركي.

 

كما بات معروفاً، المنصّة 2 مُهّد لولادتها في اجتماع عُقد بعيداً من الأضواء، جمع حاكم البنك المركزي مع أحد مستشاري رئيس الجمهورية الاقتصاديين، وأُعلنت عقب اجتماع لاحق عُقد بين حاكم المصرف المركزي ومستشار آخر في القصر الجمهوري. كما في المنصّة 1، حدّد المصرف المركزي الهدف، وهو توفير النقد الأجنبي لتلبية حاجات لبنان الاقتصادية وخلافها، استيراداً وتصديراً بشقيها المدعوم وغير المدعوم، وتهميش السوق السوداء.

 

بقي الشركاء في المنصّة هم أنفسهم: المصرف المركزي، المصارف والصيارفة، مع فارق يتمثل بالسماح للمصارف بمبيع وشراء الدولار نقداً، وفقاً لآليات عملانية داخلية وآليات عمل ومراقبة وضبط، يحدّدها مصرف لبنان المركزي. وآخر تمثلّ باعتماد انطلاقة سعر صرف الدولار في حدود 10 آلاف ليرة.

 

للتذكير، يتراوح حجم الدعم المقدّم من مصرف لبنان وفقاً لتقرير صادر عن وزارة الاقتصاد بين 6.5 مليارات دولار و7 مليارات سنوياً. في حين بلغ مجموع ما استورده لبنان في الأشهر العشرة الأولى من سنة 2020، نحو 9 مليارات دولار. وهذا الرقم يتأثر سلباً أو إيجاباً بتقلّبات سعر النفط في الأسواق العالمية.

 

أما الصادرات فسجّلت في الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي، نحو 2.8 مليار دولار. وتجدر الإشارة في هذا المجال، إلى أنّه لا يمكن التأكيد أنّ مداخيل التصدير تتمّ إعادتها إلى الداخل كلياً أو جزئياً. كما تُقدّر تحويلات اللبنانيين من الخارج بنحو 7 مليارات دولار سنوياً. ولكن واقع العلاقة المتوترة بين المصارف وزبائنها، والتي يعمّقها انعدام الثقة بين الاثنين، لا يشجعنا على الاعتقاد بأنّ هذه المبالغ تدخل إلى النظام المصرفي. في حين أنّ الواقع السائد، يميل إلى الاعتقاد بأنّ هذه التحويلات تتمّ في أكثريتها عبر شركات تحويل الأموال أو محمولة نقداً. وفي هذا المجال، هناك أيضاً تحويلات أخرى تَعبُر إلى المستفيدين، منها بالعملات الأجنبية من خلال القطاع المصرفي، وهذه على سبيل المثال وليس الحصر، تحويلات الأمم المتحدة للجنود في الجنوب والمهجّرين السوريين، والمساعدات الدولية الإنسانية والسفارات العاملة في لبنان إلخ...

 

من هذا المنطلق، نرى أنّ التحدّي الأكبر يكمن في إمكانية قيام المصارف بدورها المرتجى في عمل المنصّة. مبدئياً وعملياً، قد يكون من جهة من الحكمة ألّا تستعمل المصارف ما هو متوافر لديها من سيولة في حساباتها لدى المصارف المراسلة، في أعمال الصرافة النقدية. ومن جهة أخرى يعتمد هذا الدور على قدرة المصارف، على إعادة تكوين وتعزيز حصتها في سوق تحويلات اللبنانيين من الخارج، واستحواذ حصّة من سوق الصيرفة النقدية سواء من الزبائن المارين على المصرف، ووفقاً لما تسمح به المنصّة، أو لجهة شراء الدولار النقدي الناتج من تحويلات الـ FRESH MONEY التي تتمّ عبرها. في رأيي أنّ هذين الأمرين دونهما استعادة الود المفقود وإعادة بناء الثقة بين المصارف وزبائنها، وهذا أمر دونه مراجعة جدّية لبنية الرسوم والعمولات المفروضة على الخدمات والمنتجات المصرفية، وكذلك إعادة تكوين النوعية المطلوبة لتقديم الخدمات المصرفية. وهذا أمر يلزمه تغييراً أساسياً وجدّياً في الثقافة العملانية التي أنتجتها الظروف الضاغطة التي خَبرها ولا يزال القطاع المصرفي في لبنان، وهذا أمر ليس بالجاهز ولا بالمتناول الحاضر.

 

وكذلك يعتمد مصير المنصّة على التزام الصرافين بالشفافية المطلوبة، وبآلية عمل المنصّة التي اعتمدها المصرف المركزي وامتثالهم لنظم ضبطها ورقابتها وقدرتهم على الاستحواذ على الحصة الأكبر من سوق الصرافة، وبالتالي تجفيف عمل السوق السوداء والحدّ من تأثيرها على سعر الصرف، وتسريب الدولار النقدي إلى خارج البلاد. وهذا أمر ليس بالسهل، فالسوق السوداء منظّمة ولديها حيثياتها وزبائنها، وأعتقد بجدّ أن عمقها واتساعها أكثر جدّية مما قد يعتقد البعض.

 

أضف إلى ذلك، والأهم في رأيي، أنّ إدارة سوق النقد خصوصاً والسياسة النقدية عموماً، تتعدّى بأشواط المفاهيم التقنية والأطر العملانية وجدّية آليات الرقابة وأجهزتها، لتتواءم عضوياً ومصيرياً مع مناخ الأعمال وكل مدخلاته الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية الخ... وهذا يسري على مختلف الاقتصادات المتقدّمة والنامية والأقل نمواً. وعندنا، حيث التآكل النّهم والشامل للبلد، يتلاشى مناخ الأعمال داخلياً ويضمحلّ خارجياً، سيما أنّ في خلفية هذا التلاشي والاضمحلال ثقافة فساد متجذّرة عصيّة على الإصلاح، وسلطة تمادت في شخصانيتها وخسرت هيبتها، وفرّطت بسيادة البلد، وهجّرت إنسانه وهدّدت كيانه وألهمت المتربصين له.

 

وعليه، نخشى أن يكون مصير المنصّة 2 كسابقتها، ويعزز خشيتنا إضافة إلى ما أوردنا آنفاً، التجاذب السياسي الحاصل الحاد والعنيد، والذي تتعمّق هوته يوماً بعد يوم، ووساطة بعد وساطة ومبادرة بعد مبادرة.

 

إنّ الوضع اللبناني بالغ التعقيد، ليس لكونه عصياً على الحلول وليس لأنّ هذا قدرنا كوطن وشعب، بل بفعل سلطة متسلّطة تفرّق ولا تجمع. هم وليس الوطن، في وقت يقتضي الالتفاف حول الوطن رزمة واحدة لدرء الاخطار الجيوبوليتيكية المحدقة به. الوضع الحالي في لبنان مفتوح على كل الاحتمالات.

 

إنّ إدارة السياسة النقدية يلزمها مناخاً عاماً مستقراً وإيجابياً، إذ أنّ هدفها الأساسي والآني والاستراتيجي هو توحيد سعر الصرف. وهذا يلزمه موارد نقدية مدعومة بخطة اقتصادية ومالية إصلاحية تنموية وهيكلة للمصارف مقبولة ذات معنى: أي من أين السيولة، مصير الودائع، متى سيتمكن المودعون من الوصول إلى ودائعهم، وكيف وكم؟ وهذا يتوقف على مفاوضات متكافئة ومنفتحة ومتفهمة لوضع لبنان الخاص المتميّز المتمثل، بأنّ الدين العام مموّل من ودائع الناس التي أصابها ما أصابها من HAIR CUT مباشر وغير مباشر، وانطلاقة المنصّة بسعر يقارب الـ10 آلاف ليرة مقابل الدولار، في حين أنّ ما يحصل عليه المودعون من مدخراتهم بالدولار يُسعّر إلى حينه بـ 3900 ليرة، مما يزيد من عمق الـ HAIR CUT.

 

حلّق الدولار بعد الفشل المدوّي لتأليف الحكومة، الكلفة السياسية لهذا الفشل على البلد تعمّق كل الأكلاف بالدقائق. إنّ الوضع الحالي في حال استمراره، سيرخي ثقله على عمل المنصّة، ويعرّض النذر الباقي من الموارد النقدية المتوافرة عند المصرف المركزي وهي ليست له، للهدر المجاني على الصعيدين الآني والاستراتيجي.

 

وختاماً، من عندي، إنّ المنصة واقعة بين مطرقة الأنا ولّلنا وسندان سوق الصرف السوداء، ويحق فيها القول DO DOOMED IF YOU DO, DOOMED IF YOU DON’T

محكوم عليك إذا تصرّفت، ومحكوم عليك إذا لم تتصرّف.

theme::common.loader_icon