«غرق الحضارات».. من شرفة أمين معلوف
«غرق الحضارات».. من شرفة أمين معلوف
كه يلان محمد
Thursday, 04-Mar-2021 06:13

لا تنفصلُ قراءة المفكّر والروائي اللبناني أمين معلوف للأزمات العالمية، والاحتمالات التي تلوحُ في المستقبل عن تجربته الذاتية، والتأمّل في محطّات حياته ومعاينة هويته الفكرية، وهي صنيعُ الروافد المتعدّدة.

 

شاء القدر أن يبصر صاحب «ليون الأفريقي» في أحضان حضارة محتضرة، كما يشيرُ إلى ذلك في مفتتح كتابه «غرق الحضارات».

يذكر أنَّ العنوان متلبّد بالحسّ الاستشرافي، لذا ما إنْ غزت جائحة كورونا العالمَ حتى تداعت إلى الأذهان مدلولات عبارة «غرق الحضارات». لكن ما يتناولهُ أمين معلوف في كتابه لا ينحصرُ في البعد الاستشرافي، بل يتتبّعُ المنعطفات الحاسمة في غضون النصف الثاني من القرن المنصرم، لافتاً إلى سلسلة من الأحداث الممتدّة تياراتها إلى الألفية الجديدة.

 

 

 

ماذا أقرأ؟

إذاً، ما تعيشهُ المجتمعات البشرية في الوقت الراهن من تحديات على مختلف الأصعدة، ليس وليد ما يبدو على السطح من العوامل المشهودة. يعودُ أمين معلوف إلى بيئته الأسرية التي امتازت بالخصوصية والفرادة، الأمر الذي يكونُ له دور في رؤية المؤلف لمفهوم الهوية وموقع الأقليات في النهوض بالمستوى الثقافي والفكري. أكثر من ذلك، فإنَّ مناخ الأسرة قد وفّر له مراقبة الآراء المختلفة بشأن الملفّات السياسية، فكان والده رشدي معلوف شاعراً وصحافياً يديرُ جريدة يومية. لذا، من الطبيعي أن يقعَ الابنُ على حزمة من الصحف كل اليوم، وهذا ما يحدو به وهو في عهد الصبا ليسأل الوالد مشيراً إلى الجرائد: «أي واحدة يجبُ أن نصدّقَ؟»، فيجيبه: «ولا واحدة منها وجميعها، لن تأتيك أية واحدة منها بكل الحقيقة».

 

 

 

العقلية المَرنة

وربما هذا الواقع المنفتح على الإتجاهات المُختلفة كان وراء نشوء العقلية المرنة والباحثة عن ملابسات المواقف والتحوّلات، كما أنَّ انضمام أمين معلوف لاحقاً إلى أحد أعرق الصحف اللبنانية أتاح له فرصة متابعة وقائع الهزّات السياسية والفكرية عن كثب. كان يتوافد على أروقة صحيفة «النهار» أشخاص من مشارب سياسية وفكرية متنوّعة، وقد يصادفُ وجود سفراء ألمانيا أو الجزائر أو الاتحاد السوفياتي، وقد يلتقي بمطران أرثوذكسي أو كاثوليكي. هذا ناهيك عن تعويل كثير من الوكالات والصحف العالمية على هذا المنبر بوصفه مصدراً إخبارياً. كما شاهد أمين معلوف سقوط سايغون وانهيار الحكومة التابعة للولايات المتحدة الأميركية، وقد عاصر لحظة انقلاب نظام الحكم في إيران، مرافقاً الوجوه الجديدة في رحلة العودة إلى قلب العاصمة المنتفضة ضد محمد رضا بهلوي.

 

 

 

يستعيدُ مؤلفُ «اختلال العالم» هذا التاريخ في سياق قراءته للتحوّلات العالمية، موضحاً أنّ ما حدث في طهران يستحيلُ فهمهُ بعيداً من التواطؤ الأميركي والبريطاني على مشروع محمد مصدق الوطني، بحسب ما يذكر معلوف بالاستناد إلى الوثائق أنّ تشرشل أقنع الأميركيين بتنظيم انقلاب في طهران عام 1953 ضد رجل كان ذنبه الوحيد أنَّه طالبَ بنصيب أوفر من عائدات النفط لشعبه. هكذا، وعلى خلفية الأطماع الاستعمارية، نشأ النظام الإسلامي الخميني، كما ساهمت سياسة رئيس الوزراء البريطاني سابقاً في تصاعد المدّ القومي بنسخته المتسلّطة في مصر. يقابلُ أمين معلوف تجربة عبد الناصر الذي قد استقطب بشخصيته المؤثرة جماهيرية عريضة في كل البلدان العربية، بسياسة مانديلا.

 

فالأخير، لم يعلن العداء لخصومه بل آثر استضافة الأقلية البيضاء فيما فقدت مصر في عهد الزعيم عبد الناصر صفتها الكوزموبولوتية.

 

 

لا يتجاهل الكاتبُ في هذا الصدد الفارق في التوقيت والتاريخ الذي يفصل بين عبد الناصر ومانديلا. على أي حال، فإنَّ أمين معلوف بخلاف أفراد عائلته قد تعاطف مع المشروع الناصري مع أنَّه ينعت عبد الناصر بأحد حفّاري قبر الشرق. ويعترفُ في الوقت نفسه بأنَّ الأمة العربية في عهده كانت تحظى بالاحترام، ولم تكن الشعارات الدينية والمذهبية جزءاً من أجندته السياسية بل عقيلته كانت إبنة لتاجر إيراني.

 

الإنقلاب الكبير

 

 

وفي إطار استقصائه للتاريخ، يلتفت أمين معلوف إلى تجربة التيارات اليسارية التي قد انخرط في تشكيلاتها أبناء الطوائف. والبتالي، سبق الولاءُ للفكرة جميع الإنتماءات الفرعية. يتناولُ في هذا الإطار ترؤس الرفيق فهد للحزب الشيوعي العراقي، علماً أنَّه كان منتمياً للأقلية لافتاً الى أنَّ الحركات السياسية المتأثّرة بالماركسية التقى في صفوفها مسلمون ومسيحيون ويهود جنباً إلى جنب. ويروي جزءاً من الأجواء الثقافية السائدة في الحواضر العربية. وقد تلقفَ الشباب كتب غرامشي واعتادوا على قراءة ناظم حكمت وبول إلوار وبرتولت بريشت، متضامنين مع الشعوب الثائرة. ومن ثمَّ يحوّلُ الإنتباه نحو واقع مختلف عندما يحلُّ الصراع على الهويات الإتنية والمذهبية مكان القيَم الفكرية. وما يثير السؤال بالنسبة للقارئ هو انسحاب اليسار من المشهد العالمي على رغم التفاف الشعوب حول رموزه في مشارق الأرض ومغاربها ردحاً من الزمن. وقد يكونُ أحد الأسباب وراءَ هذا الإنقلاب هو تورّط الإتحاد السوفياتي في أفغانستان ومبادرة الولايات المتحدة لفتح الممرّ للجهاديين وتعبئتهم ضد الخصم المشترك. وهذا ما اعترف به بريجينسكي عرّاب المشروع الأميركي في أفغانستان. يأتي كل ذلك في سياق سلسلة من التطوّرات على الصعيد العالمي، بدءاً من الإطاحة بالشاه واقتحام الحرم المكي في السعودية، وانتخاب بابا غير إيطالي كان بولندياً، أضف إلى هذه الوقائع تسلّم دينغ شياو بينغ دفة القيادة في الصين وفوز المحافظين في بريطانيا بتوقيع مارغريت تاتشر، إلى أن أصبحت اليسارية مؤشراً للتقهقر. من هنا يصفُ أمين معلوف تاريخ 1979 بسنة الانقلاب الكبير لأنَّ ما عاشه العالم حينذاك كان إرهاصاً بولادة عالم مغاير على كل المستويات.

 

 

 

حلم نبيل

لدى بعض المفكّرين حلمٌ نبيل لا يقتصر على تحقيق صحة توقعاتهم بشأن المستقبل، ولا تزايد عدد التابعين والأنصار ولا تخليد الأسماء، بل أن تصلَ البشرية إلى درجة من التقدّم الفكري والصحوة الأخلاقية، يُطوى معها إرثهم المعرفي بين طيّات النسيان. فأمين معلوف هو في طليعة هذا الصنف، إذ يختم كتابه «الهويات القاتلة» بأمنية معبّرة عن تطلّعه لانعتاق أبناء الأجيال القادمة من قيد الأزمات القاهرة، فهو يقول: «أتمنّى عندما يتصفّحُ حفيدي هذا الكتاب ومن ثمَّ يعيده إلى الرف مستخفّاً ومستغرباً للحاجة إلى قول هذه الأمور في زمن عاش فيه جده».

 

 

 

لكن من يقرأ غرق الحضارات يدركُ بأنَّ كثيراً من التحديّات لا تزالُ قائمة، بل يتفكّكُ العالمُ على مرأى الجميع.

 

 

 

يلفتُ معلوف النظر إلى مفارقة غريبة، فلأول مرة في التاريخ تتوافر الوسائل الكفيلة لإنقاذ الجنس البشري من جميع الويلات التي تداهمه، للانتقال به نحو عصر من الحريّة والتقدّم والتضامن الكوكبي والرخاء المشترك، لكن مع ذلك تنطلق السفينة بسرعة فائقة في الاتجاه المعاكس. يشارُ إلى أنّ ما يتميّزُ به أمين معلوف هو إيمانه الشديد بمفهوم الإنسانية، الأمر الذي نستشفّهُ في كلّ مؤلفاته، إذ يعلنُ موقفه قائلاً: «عندما لا يعودُ باستطاعة المرء أن يمارسَ حقوقه كمواطن من دون الإشارة إلى أصوله الإتنية أو الدينية، فهذا يعني أنَّ الأمة بأسرها قد سلكت طريق الهمجية». ويخالفُ معلوف معظم المثقّفين في مقاربته لظاهرة التخلّف وتراوح بلداننا في مستنقع الصراعات العبثية، فبرأيه «يتحمّلُ الغرب جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا الوضع».

 

 

 

مأساة الغرب منذ القرون هي أنه كان حائراً بين رغبته في تمدين العالم وإرادته للسيطرة عليه. وبنظر هذا المفكّر، فإنَّ الدين بقدر ما يؤثر على عقلية وسلوكيات الإنسان يتأثر تفسيره وفهم معطياته العقائدية بالبيئة، لذا لا يصحُّ القول بوجود طريقة وحيدة لتأويل مقاصده. فهذه النصوص المقدسة تقولُ في كل مرحلة من مراحل التاريخ ما يرغب الناس بسماعه.

 

 

 

وفي النهاية، إنّ النظر من شرفة أمين معلوف يعني الاحتكام إلى النزعة الإنسانية وعدم الانسياق وراء وَهم الهوية وتفادي الوقوع في مطب الاختزال في التفسير.

 

theme::common.loader_icon