اللعبة في التّنَاص بين اللون والكلمة
اللعبة في التّنَاص بين اللون والكلمة
كه يلان محمد
Wednesday, 17-Feb-2021 06:15

أخذ البحث عن العلاقات بين الأعمال الأدبية قسطاً وافراً في الدراسات التَناصيّة، إذ أصبحَ مفهوم التّنَاص أداة في المساعي النقدية. ومن المعلوم أنَّ جوليا كريستوفا قد نَظّرت لهذا المفهوم بناءً على ما اصطلحَ عليه بالحوارية لدى ميخائيل باختين، وبهذا لم يعد النص مُنكفئاً على بنيته الداخلية بحسب ما هو مُتداوَل في المنهج البينوي، بل يتطلّب فك شفرات النص تحديد أصوات متسرّبة في فضائه وبنيته التي تنفتح على الخطابات الأخرى.

 

تتحرّك النصوص بنظر كريستوفا على محورين: الأول أفقي يربط بين مؤلّف النصّ وقارئه، والثاني عمودي يربط بين النصّ والنصوص الأخرى. والبتالي، لا يتقيّدُ المتلقّي بمحدّدات مسبقة في مقاربته لمكوّنات المعطى الأدبي.

 

تداخل الأجناس الفنيّة

ومن الواضح أنَّ التداخل بين الأجناس الأدبية قد وَفّر مزيداً من الإمكانيات للتواصل بين الاشتغالات الإبداعية، بحيث لا ينتهي الأمر عند التأمّل بتَمظهرات شكل العلاقة بين النصّين أو تتبّع الاقتباسات الضمنية في المنجَز الأدبي، إنما قد يحيلنا محتوى النصّ إلى حقل الفن التشيكلي أو الأفلام السينمائية، وهذا ما نراه في الأعمال الروائية. ينطلقُ السرد في رواية «جميلة « لجنكيز إيتماتوف باستعادة الراوي لقصّة حبّ من خلال التأمّل في لوحة فنية. ورواية «عيناها» للكاتب الإيراني بزورك علوي تتّخِذ من لوحة البطلة «فرنغيس» منصّة لسرد مرحلة فارقة في تاريخ إيران. ومن جانبه، فإنّ الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت استوحى موضوع مسرحيته «في انتظار غودو» من لوحة دافيد فريدريش. وأشار الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد إلى استلهام مادّة روايته «في كل أسبوع يوم الجمعة» من حوار متبادَل بين شخصيات فيلم سويدي.

وما يجدر ذكره في هذا السياق، هو اعتراف أرنست همنغواي بأنّه قد تعلّم من الرسّامين عن الكتابة بقدر ما تعلّم من الكتّاب، مضيفاً بأنَّ سيزان، وغويا، وفان غوغ، وغوغان هم من أسلافه إلى جانب كل من تولستوي، وموباسان، وتشيخوف. إذاً، فإنّ ما ذُكِرَ أعلاه يَسوغُ البحث عن التجليّات التناصِيّة بين النص الأدبي والفن بأنواعه المختلفة الفوتوغرافية والسينمائية والتشيكلية. وكلّما كان الاهتمام أكثر بالفضاءات المُتقاطعة بين الأعمال الإبداعية تتوالَد مفردات جديدة في المعجم النقدي.

 

البُعد الفكري

الفكرة هي قوام لكلّ عمل إبداعي، وانطلاقاً من هذا المبدأ يمكنُ النظر إلى الإيماءات الدلالية بوَصفها مفاتيح لفهم أيّ أثر أدبي أو فنّي. لذا يقول جون فرانسوا ليوتار: «قليلة هي الأشياء التي تُرى في اللوحة، كثيرة هي الأشياء التي تدعو إلى التفكير». وينسحبُ مضمون هذه العبارة على أعمال الفنانة اللبنانية «هناء عبد الخالق» عموماً وعلى لوحتها المُعَنونة بـ»لاعبة النرد» خصوصاً، ويتبيّنُ في اختيارها لمفردة اللعبة إدراكها العميق لدور الكلمة في إذابة الجليد بين المتلقّي وإيحاءات اللون. وقبل الانتقال إلى جزئيات اللوحة تومِضُ بالذهن قصيدة «لاعب النرد» للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وذلك يكون مصحوباً بالسؤال بشأن الغَرَض من التحوير في عتبة العنوان. ولا يمكن التعاطي مع هذا الأمر باعتباره حركة اعتباطية، بل هو نتاج لعملية واعية تهدف إلى تأسيس لسردية موازية للمروية الشعرية. والمتابعُ لمحتويات الدواوين الأخيرة لصاحب «أثر الفراشة» يتأكّد من تفاعله مع المفاهيم الفلسفية كما تتوارَد في سياق القصيدة التي تواصلت عبد الخالق مع أجوائها باللون مفردات تومىءُ إلى هشاشة الحب والحياة ودور الصدفة في تكوين الهوية وتحديد المصير. هذا ناهيك عن الاحتفاء بالأشياء البسيطة والتبَصّر بمفردات الطبيعة، من الورد والعَنادل إلى السماء.

 

اللون بدلاً من التسمية

ولا يَغيب الحلم أيضاً في أثير القصيدة، كما أنّ النص بأكمله يقوم على بنية ذهنية مُضمَرة للأسئلة الوجودية. وهذا الملمح الوجودي ينعكس بالوضوح في لوحة هناء عبد الخالق وشكل كرة الأرض التي تبدو في خلفية المرأة التي لا يَحجبُ سكونها على المستوى الخارجي زَخم حركتها الداخلية. وما يمكّنُ المتلقّي من استِنكَاه سرائر تلك الشخصية هو المسافة الموجودة بينها وبين أحجار النرد المتناثرة في وضعيات مختلفة، ما يعني أنّ الإنسان ليس على دراية بحَيثيات مسرح اللعبة برمّتها وإن كان يريد الحضور في صورة من يَمتلك حَق صياغة قواعدها. ويمكن فَهم هذا التفصيل في ضوء ما يقوله سبينوزا انّ «البَشر لا يفكّرون حتى في الحلم في الأسباب التي تجعلهم يرغبون ويريدون لكونهم يجهلونها، ولأنّ الإنسان لا يَدع شيئاً حتى لو كان غامضاً إلّا ويُريد تضسميته». لذلك، حاولَ محمود درويش تفسير سلسلة من الوقائع الحياتية من خلال توصيفها بالصدفة. وبالنسبة للفنانة عبد الخالق، يحلُّ اللون مكان التسمية، لذا تَكمن عناصر الحل في لون الأشياء. ومن هنا تأتي أهمية وظيفة الفنان عندما يُضفي بُعداً جديداً للإنسان بحيث لن يكون مجرّد كائنٍ ناطق أو مستمع يُبصِر أسرار اللون. وما أرادت هناء عبد الخالق التعبير عنه بتحوير عنوان القصيدة هو أنّ الهموم الوجودية أمر مشترك بين الرجل والمرأة، كما أنّ نحت الأسئلة الفلسفية ليست فقط من اختصاص الرجل. يذكر أنّ شخصية المرأة في معظم لوحات هناء عبد الخالق تَرمز إلى القوة التي يعقد عليها أمل لَملَمة العالم المتبعثِر، الأمر الذي يمكن معاينته في لوحة «كش الملك».

 

بنية الحوار

الحوار بين النصوص الأدبية واللوحات الفنية يحرّر مستويات المتلقي من النمطية، ويضيف إلى الحسّ الإبداعي طاقات تأويلية كما يُفعِّل مَدارك المرسَل إليه، وذلك من خلال رصد آلية التواصل بين جَرس الكلمات وظلال اللون. هنا يكون التأمّل لفضاء اللوحة مُصاحِباً بالبحث عن تمثّلات الرموز في جسد اللغة داخل أثير اللون. واللافت في هذا التناص بين اللون واللغة هو ما يوفّره من مثابات لقراءة طباقية، إذ لا يمكن أن نشاهد لوحة مُستوحاة فكرتها من النصّ من دون استعادة رَنينه. لذا، فإنّ ما أنجَزته الفنانة اللبنانية هناء عبد الخالق في لوحة «لاعبة النرد» يكونُ دافعاً للعودة إلى قصيدة محمود درويش «لاعب النرد» والتنقيب عن تلك الشفيرات المُكتَنَزة بالطاقات البصرية، لأنّ الفنان لا يُبادر باستضافة مضمون النص في أفق ألوانه إذا غابت المشاهد الدينامية في بنية النص الأدبي.

أكثر من ذلك، فإنّ التأمل في مظاهر الحياة في صيغة شِعرية تارة وفي لوحة فنية تارة أخرى، يُنهي النقاش بشأن الفجوة المُفتعَلة بين اللون والكلمة.

theme::common.loader_icon