إزدياد الاضطرابات النفسية في لبنان... حدِّث ولا حرج
إزدياد الاضطرابات النفسية في لبنان... حدِّث ولا حرج
ماريانا معضاد
Thursday, 28-Jan-2021 06:17

جيلاً بعد جيل، يعيش الشعب اللبناني مآسي حروب وصراعات من جميع الألوان والأشكال، فيما موضوع الصحة النفسية موصوم بالعار... «شو، جَنّ؟». وضع اقتصادي متردٍ، إرتفاع هائل في أعداد الإصابات والوفيات جراء انتشار فيروس كورونا، وانفجار 4 آب، مأساة سيظل صداها يتردد على مر السنين وفي نفوس اللبنانيين... كلها تزيد من الاضطرابات النفسية في بلدٍ طبع شاشاته مواطنون يُنهون حياتهم بعد فقدان الأمل.

في حديث لـ«الجمهورية»، تناول د. رامي بو خليل، طبيب نفسي أخصائي أمراض نفسية، وأستاذ محاضر في قسم الأمراض النفسية في جامعة USJ، وطبيب في مستشفى أوتيل ديو، بيانات الصحة النفسية في لبنان، قائلاً: «وفقاً للبيانات القديمة - أواخر التسعينات وأوائل الألفين - لم يختلف لبنان عن باقي البلدان في ما يتعلق بالأمراض النفسية: على مدى الحياة، شخص من أصل 4 سيصاب بمرض نفسي. والذي ميَّزَ مجتمعنا هو أنّ من بين الأشخاص المصابين، هناك حوالى 10 % منهم فقط تلقّوا علاجاً، ونادرا ما يكون العلاج لدى أخصائي».

 

أما في البيانات الحديثة، و«بعد بداية الأزمة الاقتصادية التي نمر بها، وحالات الانتحار التي نسمع عنها، ركزت وسائل الإعلام على تأثير الوضع الاقتصادي والاجتماعي على الصحة النفسية، فساد الانطباع بين اللبنانيين أنّ أعداد الانتحار في ازدياد، ولكن ما من أرقام دقيقة، ما من سجلات رسمية». وأشار د. بو خليل الى أنّ الانتحار «نتيجة عذاب نفسي طويل».

 

الوضع الاقتصادي

قال د. رامي يو خليل: «بالإجمال، إنّ الإجهاد المادي أو الاقتصادي (economical or financial stress) هو أحد عوامل الاجهاد، وهو يشبه عوامل الإجهاد الاجتماعية. إنما في حال الاجهاد الاقتصادي، فإنّ المريض لن يرى مخرجاً بالإجمال. ففي لبنان، مثلاً، إنّ المجتمع بأكمله يعاني وضعاً اقتصادياً متردياً، ونسبة بطالة مرتفعة، وأزمة العملة المحلية... إذاً، هي ليست مشكلة شخصية، بل واقع لا مفر منه إلا إذا بَدّلَ الفرد مجتمعه. وقد يكون عدم وجود حل على المستوى الشخصي من أسباب ارتفاع نسبة الانتحار في لبنان جرّاء تدهور الوضع الاقتصادي. فالأمر عينه حدثَ في الولايات المتحدة، وفي اليونان في أزماتها الاقتصادية المتعاقبة». وأضاف: «غالباً ما يؤثر الإجهاد المالي في فئة معينة من المجتمع أكثر من غيرها، وهذه الفئة في لبنان هي كالتالي:

- النوع الاجتماعي: رجل في مجتمعنا، «رب المنزل» هو المعيل الأول والمسؤول.

 

- الفئة العمرية: تخطى العمر الذي يسمح له باللجوء إلى الهجرة.

 

- المستوى العلمي: عدم امتلاك شهادة علمية لا تسمح للفرد بتغيير مكان عمله مثلاً أو ظروفه.

 

إنتشار الوباء

قد يكون انتشار وباء هو أمر جديد بالنسبة الى لجيل الحالي، ولكنه ليس بجديد على البشرية. أمّا ما يميّز هذا الوباء، بحسب د. رامي، فهو الأهمية التي سيقت لوضع الأشخاص النفسي: «في السابق، كان العالم يتعامل مع الأوبئة بطريقة منهجية عملية وبأبعاد دينية، لا سيما مع أعداد الوفيات الهائلة في تلك الأوقات. ومع ظهور التطعيمات، بدأت الأمور تتغير، واكتشفنا وسائل وقاية وحلولاً مختلفة. في الواقع، أجريت الكثير من الدراسات في عصر كوفيد-19، وإنّ انتشار هذا الوباء هو أكثر حدث تاريخي دفع الدراسات إلى التركيز على موضوع الصحة النفسية». وتابع: «الواضح أنّ القلق والتوتر هما في ازدياد جراء انتشار الوباء والحجر المنزلي، فضلاً عن الاكتئاب واضطرابات الأكل والمشاكل الاجتماعية المتعلقة بالبطالة وانخفاض القدرة الشرائية والمشاكل الزوجية والعنف المنزلي، واستعمال الكحول والمهدئات والحشيش وغيرها لملء الفراغ... كل ذلك يفاقم أيّ إدمان أو استعداد للإدمان، ويؤثر في صحة الأفراد النفسية».

 

إنفجار مرفأ بيروت

مرّت بضعة أشهر على انفجار 4 آب، وبدأنا نتخطى ردة الفعل الأولية لهذا الحدث الإجرامي. ولكن ما هو أثره في المدى البعيد؟

 

«من منظار الأثر الطويل الأمد، علينا أن نضع الانفجار في سياقه التاريخي. وهناك تاريخ من عدم الاستقرار الأمني في لبنان. قد لا نجد نموذجاً مماثلاً في العالم أكمل لدراسة تأثير ذلك في اللبنانيين، لا سيما انّ التمويل لدراسته على مستوى البلد غير متوفّر. ولكن بطبيعة الحال، إنّ حدثاً مثل انفجار 4 آب يخلق أزمة وجودية لدى الأشخاص. فالأمان - حاجة أساسية للإنسان، وركيزة تسمح للمجتمع بالوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتطوير الذات - معدوم.

 

إلى جانب القلق واليأس وآثار ما بعد الصدمة، يخلق هذا الانفجار نوعاً من المرارة. ولكي نتقبّل الحدث، ونتعامل معه بحكمة، نحن بحاجة إلى أن نفهمه أولاً، فيما الشعب اللبناني لا يمتلك أي أجوبة، ما يولّد الشعور بالمرارة واللوعة. وعادةً، تنتج المرارة العنف - وهذا ما لا أتمنى أن يحصل في لبنان - ليس بالضرورة على شكل حرب، بل على الصعيد الشخصي، في المنزل أو العمل أو على الطرقات... ولتهدئة الذات، سيزداد استعمال المواد المهدئة...».

 

هل نحن فعلاً نمارس الـResilience؟

شرحَ د. رامي مفهوم المرونة أو الـresilience على أنها «التعَلّم والاستفادة من الأمور السيئة، والـ»نمو» وازدياد الحكمة. ولكن هل كل ما يحدث من أمور سلبية في لبنان يأخذنا إلى مكان أفضل على الصعيد الفردي والمجتمعي؟

 

«ما يحدث اليوم هو أسوأ من حرب تُطَبّق فيها قواعد الاشتباك. فنحن نجهل اليوم إذا كنّا في مكان آمن أو خطر، لأنّ الانفجار كان عشوائياً، حتى أنه قتل الناس في عملها وفي منزلها... وفي ما يتعلق بكوفيد-19، لا ندري حتى الآن متى سينتهي مسلسل الحجر المنزلي ومتى سيأتينا اللقاح! وحقائق الوضع الاقتصادي أيضاً غير واضحة، إذ لا يعلم اللبنانيون إن كان له حل أم لا، وإذا كانت المساعدات ستأتينا أم لا، وإذا كان الحل سياسياً أو اقتصادياً؟...

 

المغزى أنّ مقومات قدرتنا على الاستفادة من هذه الأحداث السلبية بشكل إيجابي غير متوفرة، فلا حقائق واضحة ولا تفسيرات».

 

رسالة من الطبيب إلى القراء

وختم د. رامي بو خليل حديثه، بالقول: «إنّ الصحة النفسية في بلدٍ كلبنان هي مُهملَة. وصمة العار حول الاضطرابات النفسية وغياب المعرفة والوعي، وارتفاع كلفة العلاجات وغياب الجهات الضامنة تمنع الكثيرين من تلقّي العلاج المناسب لمشكلتهم النفسية». ويشدد: «مش غلط ان نستشير طبيباً نفسياً، الغلط ان نكون بقلق، ونوصَل ليَأس وإدمان... الغلط إنّو نكون بيأس وإدمان، نوصَل للانتحار...»، موضحاً انّ «علاجات الأمراض النفسية ليست إدمانية، هي أدوية عادية يمكن أن تُحَسّن من حال المريض النفسية، وحتى أن توصِله إلى الشفاء التام».

theme::common.loader_icon