لماذا العودة إلى الرواقية؟
لماذا العودة إلى الرواقية؟
كه يلان محمد
Wednesday, 27-Jan-2021 06:12

يتزاحمُ تاريخ الفلسفة بالمذاهب والإتجاهات المتعدّدة، وينطبعُ كل مذهب بخصائص عصرهِ، ويمثّلُ ما وصلَ إليه التطوّرُ الفكري في مرحلةُ تاريخية معيّنة. صحيح أنَّ الفكرة تبدو أكثر تطوّراً من المرحلة التي حملت نواتها الأولى، لكن هذا لا يعني إنفصالها العضوي من الوضع الراهن. إذاً، فإنَّ الفلسفة تنهضُ من الواقع في كل الأحوال. والسؤال الذي يفرضُ نفسه إذا كان كل مذهب فلسفي إنعكاساً للوعي بمتطلبات حلقة تأريخية وإرهاصاً بشكل المرحلة اللاحقة، فماذا تفيدُ العودةُ إلى المذاهبُ الفلسفية وهي وليدةُ ماضٍ سحيق؟

 

بعبارة أوضح، ماذا تضيفُ الفلسفة الرواقية إلى الإنسان المعاصر؟ ونحن نعرفُ بأنَّ أصحاب هذه المدرسة يغلبهم الميل نحو التقشّف، فيما أصبحت الأرقام بوظيفتها المادية لغةً للعالم الحديث. بدايةً، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأسئلة الوجودية ركنُ أساس في المنظومة الفلسفية، لذا لا ينسحبُ عليها ما قد ينطبقُ على النظريات العلمية، التي ربما تفقدُ قيمتها بمجرد الإعلان عن الفتوحات الجديدة، بينما طيف الفلاسفة يلوحُ في الأفق كلما حلّت الأزمة بالمجتمعات الإنسانية. لذا، يرى لوك فيري، أنَّ تاريخ الفلسفة يشبه تاريخ الفنّ أكثر مما يشبه تاريخ العلوم، ففي المجال الإستيقي، يمكن أن نحبَّ رؤى مختلفة تماماً كما هو الأمر بشأن الفلسفة، ولا تعوّضُ التيارات المعاصرة المدارس الكلاسيكية.

 

فضيلة الحرية

ما يزيدُ من أهمية الفلسفة الرواقية في هذا التوقيت، هو إنصراف أقطابها إلى الشؤون الحياتية ومسعاهم الرامي الى تحسين المستوى السلوكي لدى الفرد. لذلك، تُصنَّفُ الرواقية ضمن المدارس الأخلاقية، ومن الطبيعي بعد الخيبات المتراكمة جراء الإنسياق وراء الوعود الخلاصية والترويج للآيدولوجيات المشحونة بالأوهام المُغلفة بالغائية، أن يتمَّ البحثُ عن خيار آخر ينفعُ لإدراك التحدّيات الحياتية، وتفادي الوقوع في مطب الإنفعالات السلبية.

تبدأُ مسيرة المعاناة برأي الرواقيين، عندما يغيبُ الحاضر لدى الإنسان، ولا يكون نظره إلّا على الماضي أو المستقبل. يقولُ سينيكا: «فإننا من فرط العيش في الماضي والمستقبل تعوزنا الحياة»، إذاً، فإنَّ الخطوة الأولى نحو طريق التعافي هي الإقامة في الحاضر. كما أنَّ الأولوية للإنسان يجبُ أن تكونَ لتفريغ قراراته، مما يثير الأهواء الحزينة إذا أراد ألّا يخسر حريته. ويتطلبُ ذلك وجود الحكمة، لأنَّ الحرية وفقاً لزينون، وهو مؤسس المدرسة الرواقية، هي إمتياز حصري للحكماء. والمرادُ من الإشتغال الفلسفي إنطلاقاً من المبدأ الرواقي ليس إلّا إكتساباً للطمأنينة. ويرى الباحث الإنكليزي أنطوني أرثر لونغ، أنَّ «المهارة التي ركّزَ عليها الرواقيون هي فنّ الحياة»، لافتاً في دراسته إلى كتاب «المختصر» لـ»إيبكتيتوس»، حيث يشرح إمكانية فهم الفن بإعتباره مرادفاً لمعرفة طريقة العيش بانسجام مع الطبيعة الإنسانية ومع البيئة الإجتماعية والمادية. ولا تتحقّق الحياة الخيرة برأي إبيكتيتوس «إلّا بالحفاظ على إرادة الفرد في إنسجام مع الطبيعة». وهنا يتمثّلُ ذكاء البشر في فهم الطبيعة الخارجية أو «الكوزموس» والتناغم معها في الأفعال والتصرّفات. وهذا يذكّرنا بحكمة نيتشوية «يجبُ للإنسان أن يكون جاراً صالحاً للأشياء الأقرب منه». وإذا كان الإختيار مناقضاً لهذا المسلك فلن تكون نتيجته على الأغلب سوى الإحباط. وما يمكّنُ الإنسان من التحكّم بدفة أموره هو العقل الذي يتضمّنُ «المحاكمة والدافع والإختيار»، وهذا يندرجُ في صنف الأشياء العائدة إلينا، وبالتالي تتراخى سلطة الأشياء الخارجية على الرغبات والمخاوف.

وتهدف الفلسفة الرواقية إلى التحكّم بالإنطباعات والتوهّمات التي تغزو الرأس، مثل القلق على الصحة والحصر النفسي تجاه حال العالم، وما ضروري القيام به مع هذه التجارب هو التآلف النفسي معها وإدارتها وتفسير العوامل التي تقفُ خلفها. والأهمُ في هذا الإطار هو تحديد «إيبكتيتوس» لمفهوم الخير والشر حسب المنفعة أو الضرر اللذين نكسبهما خلال قراراتنا أو أفعالنا، ما يعني أنَّ الأشياء الخارجية أقرب إلى طبيعة محايدة، كما أنَّ تقيّد السعادة بالظروف يعني التخلّي عن الإستقلال والإتزان العاطفي حسب قراءة «أنطوني آرثر لونغ» للمذهب الرواقي.

 

الممارسة

لايمكنُ إختزال التفلسف في إقتناء المعرفة بل من الضروري تحويل المفاهيم الفلسفية إلى مجال الممارسة على المستوى المعيشي، ولا يجدي ترديدُ المفردات المقتبسة من معجم الفلسفة نفعاً، دون أن يكونَ ذلك دافعاً لفهم متعمّق وتحسين الرؤية للمعطيات والظواهر التي تحيط بنا. ويقولُ «إيبكتيتوس» عن النشاط الفلسفي، بأنّهُ «إستعداد لمواجهة الأشياء التي تفرض نفسها علينا»، وهذا النسق من التفكير هو ما يحتاجه العالم اليوم. ونستشفُ ظلّه في وصف نسيم طالب لتاريخ البشرية، قائلاً: «إنَّ تاريخنا سلسلة من الأحداث الكبيرة التي لم يتوقعها أي شخص». وما يكون مصدراً للإزعاج بنظر المذهب الرواقي، ليس الأشياء بحدّ ذاتها بل أحكامنا عليها هي ما يزعجنا.

هنا يتقاطعُ سبينوزا مع حكمة رواقية، عندما ينصحنا بعدم إطلاق الأحكام على ما نصادفه من الظواهر. كذلك يوافقُ صاحبُ «اللاهوت السياسي» سلفه الرواقي «إيبكتيتوس» في زهده الفلسفي، مؤكّداً أنّ «من يكون الأكثرُ تعلقاً بكل ضروب الخرافة هم أولئك الذين يرغبون بكل جموح في الخيرات الخارجية»، ويصبحُ الإنسانُ أكثر هدوءاً وحرية إذا لم يتبدّل مزاجهُ حسب ما يطلقُ عليه الناس من الأحكام ورد في المختصر «إذا أخبرت أنّ أحداً يتحدث عنك بالسوء فلا تدافع عن نفسك بل قل من الواضح أنَّه لايعرفُ بقية عيوبي وإلّا لتحدث عنها أيضاً».

 

تنظيم العلاقات

تنظّمُ الفلسفة الرواقية شكل علاقتنا بالآخر، إذ أنَّ ما يعجبنا ربما يرفضهُ المقابلُ، كما أنَّ البطولات والفضائل التي ننسبها لأنفسنا قد تثيرُ غيظ المستمع ويشعرُ بالملل. لذا يقول إيبكتيتوس: «لا تطل حديثك عن أفعالك ومغامراتك أمام أصدقائك».

وطبعاً كان ماركوس أوريليوس يأتي في طليعة من أعجبوا بـ»إيبكتيتوس»، إذ يقولُ صاحب التأملات مستوحياً من فلسفة أستاذه: «كم تعجّبتُ أنَّ كل إنسان يحبُّ نفسه أكثر من أي شخص آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعاً أدنى من رأي الآخرين فيه».

وفي النهاية، العودة إلى الرواقية ضرورية، ليس بوصفها عقيدة أو آيدولوجية، إنما محاولة لإعادة تنظيم الفوضى القائمة في الباطن. يُذكر أنَّ زهد الرواقيين ينشأُ من أساس فلسفي حين يتمّ توزيع الأشياء إلى ثلاثة أنواع: «ما يقع في مجال قدرتك أو يفوق طاقتك أو إمكانياتك أو ما يُسمّى بالأشياء اللافارقة»... وكما يقول ماركوس أوريليوس: «عش الحياة على أفضل نحو ممكن، بوسع الروح أن تفعل ذلك إذا كنت غير مكترث بالأشياء غير الفارقة».

theme::common.loader_icon