لهذه الأسباب... «الإبراء المستحيل»
لهذه الأسباب... «الإبراء المستحيل»
ابراهيم كنعان
جريدة الجمهورية
Friday, 22-Feb-2013 00:58
وأخيراً أتحفتنا الوزيرة السابقة للمالية السيّدة ريّا الحسن بمطالعة عن المرحلة التي تناولها كتاب الإبراء المستحيل الذي أبرز النصوص الدستورية والقانونية والنظامية التي ترعى موضوعي الإنفاق العام والمالية العامة، ومن ثمّ أورد الوقائع المتعلقة ببعض مواطن هذين الموضوعين الرئيسين على امتداد السنوات الثماني عشرة 1993 – 2010، ليخلص بعد التحليل العلمي الرصين إلى استخلاص النتائج وتحديد مواطن الخلل وآثارها المالية والمحاسبية والاقتصادية والاجتماعية، فإذا بالسيّدة ريّا تختصر الكتاب بتسميته بالكتيّب وبأنّه أُعِدّ بأسلوب هزليّ، وبأنّه يتضمّن أكاذيب وأضاليل وافتراءات، من دون أن تواجه ما ورد فيه بالأسلوب العلمي الذي يعتمد الحجّة والبرهان والمستنَد والمرجع القانوني.
في البدء لم أكن في وارد الردّ على معالي الوزيرة لأنني على علم أكيد بأنّها قد دُفعت قسراً إلى تبنّي ما كتبته. إلّا أنّ حرصي على حقّ الرأي العام بمعرفة الحقيقة كاملة، كما هي الغاية من وضع كتاب الإبراء المستحيل، قد جعلني أعيد النظر بقرار عدم الردّ.

أمّا الردّ على صاحبة المعالي فمزدوج:

- ردّ بما أدلت به معاليها شخصيّاً في أكثر من مناسبة،

- وردّ بالوقائع وبالقرارات القضائية وبالتقارير الصادرة عن المراجع الدولية.

ففي اجتماع خاص عقدته في مكتبي في مجلس النواب مع معالي الوزيرة ريّا الحسن، بناءً على طلبها، بمناسبة درس ومناقشة مشروع موازنة العام 2010، قالت معاليها بأنني على حقّ في كلّ ما أقوم به وأقترحه في لجنة المال والموازنة، إلّا أنّ الإصلاح المطلوب لا يمكن أن يتحقّق دفعة واحدة فتنقلب الأمور بمعدّل 180 درجة خلال الوقت المتاح لمناقشة مشروع موازنة.

وكان جوابي في حينه أنّ الإصلاح كلٌّ لا يتجزّأ ولا يمكن المساومة عليه لأنّه ينطلق من أسُس دستورية وقانونية ونظامية ومن حقائق ثابتة في علم المالية العامّة، كما أنّه من مقوّمات النظام البرلماني ولا سيّما ما يتعلق بركنين أساسيين من أركانه هما سلامة التشريع وحق السلطة التشريعية بالرقابة على أعمال الحكومة.

محضر لجنة المال شاهد

وفي اجتماع لجنة المال والموازنة المنعقد بتاريخ 9/6/2011، وبعد الإفادة التي أدلى بها مدير المالية العام، وهو أعلى سلطة إدارية في الوزارة بعد الوزير، وحدّد مواطن الخلل في مسك حسابات الدولة في وزارة المالية، استغربت صاحبة المعالي ريّا الحسن تحميلها وحدها نتيجة كلّ الخلل الحاصل، واقترحت الاستماع إلى جميع وزراء المالية الذين تناوبوا على تولّي مهامّ وزارة المالية. وإن كانت صاحبة المعالي قد أنكرت في اليوم التالي اقتراحها المذكور لأسباب هي أدرى بها، فإنّ محضر لجنة المال والموازنة بتاريخ 9/6/2011 يشهد على ذلك.

وقد طلبتُ من دولة رئيس مجلس النواب أكثر من مرّة بناءً على توصية صادرة عن لجنة المال والموازنة تقدّم بها النائب علي حسن خليل في حينه رفعَ السرّية عن المحضر المذكور وإعلام السادة النواب والرأي العام به، دون أن أصل إلى نتيجة إيجابية. ولعلّ معالي الوزيرة أقدر منّي على إقناع دولة رئيس المجلس برفع السرّية عن المحضر لكي يتبين للرأي العام ما تضمّنه من وقائع وحقائق مذهلة.

أمّا مشروع موازنة العام 2010 فقد أنجزت لجنة المال والموازنة درسه ومناقشته بعد 54 اجتماعاً عقدت لهذه الغاية. إلّا أنّ إقراره من قبل الهيئة العامة لمجلس النواب تعذّر بسبب موجب دستوري نصّت عليه المادة 87 من الدستور، وبسبب موجب قانوني نصّت عليه المادة 118 من النظام الداخلي لمجلس النواب، حيث ربطت هاتان المادتان إقرار الموازنة ونشرها بإقرار الحسابات المالية النهائية التي تبيّن أنّها لم تنظّم ولم تقدّم إلى المجلس النيابي منذ العام 2003 في ما خصّ قطع حساب الموازنة، وبأنّها لم تنظّم منذ العام 2000 في ما خصّ حساب المهمة، وبأنّ جميع الحسابات السابقة لهذين العامين غير صحيحة وغير سليمة منذ تصفير الحسابات في مطلع العام 1993.

وهنا لا يسعني إلّا أن أذكّر معالي الوزيرة بمشروع القانون الذي تقدّمت به معاليها لتسوية نفقات السنوات 2006 – 2009 ضمناً والذي أرفِق بجدول من صفحة واحدة تضمّنت خطأً في جمع رقمين بما يزيد على 252 مليار ليرة.

وأمّا مشروع موازنة العام 2011 الذي كان يقتضي تقديمه إلى المجلس النيابي قبل الخامس عشر من شهر تشرين الأوّل 2010 كما تقضي أحكام المادة 83 من الدستور، فتُسأل السيّدة ريّا الحسن عن عدم تقديمه لأنّها كانت وزيرة للمالية في ذلك التاريخ. أمّا أنا فقد تقدّمت بسؤال الحكومة في حينه عن أسباب عدم تقديم مشروع الموازنة المذكور وعن المهلة المتوقعة لتقديمه مع الحسابات المالية اللازمة لإقراره، وبالطبع لم أحصل على أيّ جواب.

وهنا أذكّر معالي الوزيرة بمشروع قانون تقدّمت به الحكومة الجديدة بعد نيلها الثقة بشهر واحد من أجل فتح اعتمادات إضافية، وكيف عرقل الفريق السياسي الذي تنتمي إليه إقرار هذا المشروع في الهيئة العامّة لمجلس النواب بعد الموافقة عليه بالإجماع في لجنة المال والموازنة. وللعلم فقد ربط هذا الفريق إقرار المشروع بتسوية التجاوز في الإنفاق العام الذي حصل خلال السنوات 2006 – 2009 ضمناً.

وأمّا مشروع موازنة العام 2012 الذي تأخّر تقديمه إلى المجلس النيابي فقد كان موضوع سؤال نيابي وجّهته إلى الحكومة دون أن أتلقّى أيّ جواب كالعادة. وهنا لا يسعني إلّا أن أذكّر معالي الوزيرة بمشروع قانون تقدّمت به الحكومة، قبل تقديم مشروع الموازنة، من أجل فتح اعتمادات إضافية فرفض الفريق السياسي الذي تنتمي إليه أيضاً الموافقة عليه وربطه بمشروع تسوية تقدّم به وزير المالية الجديد للإنفاق العام خلال السنوات 2006 – 2010 ضمناً. ولولا وقوفنا في وجه التسوية المذكورة لكانت الرقابة البرلمانية على الحسابات المالية النهائية قد أصبحت للذكرى.

ولما تقدّمت الحكومة بمشروع موازنة العام 2012 خلال شهر أيلول 2012 عكفت لجنة المال والموازنة على درسه ومناقشته، إلّا أنّ مقاطعة الفريق السياسي الذي تنتمي معالي الوزيرة ريّا الحسن إليه لجلسات اللجنة اعتباراً من تاريخ 19 تشرين الأوّل 2012 قد حال دون تمكّن اللجنة من إنجاز درسه.

الحسابات والموازنة

ومن الوقائع الثابتة بعلم كلّ من يتعاطى الشأن العام وباعتراف معالي الوزيرة ريّا الحسن:

- أنّ مشاريع الموازنات لم تقدّم ضمن المهل الدستوريّة منذ مطلع العام 1993،

- وأنّ الحسابات الماليّة قد صُفّرت في مطلع العام 1993،

- وأنّ قطوعات الحساب العائدة للسنوات 1993 – 2003 ضمناً قد أقرّها مجلس النوّاب مع التحفّظ بسبب عدم البتّ بصحّتها وسلامة قيودها،

- وأنّ حسابات المهمة العائدة للسنوات 1993 – 2000 قد ردّها ديوان المحاسبة إلى وزارة المالية من أجل إعادة وضعها حسب الأصول،

- وأنّ قطوعات الحساب العائدة للسنوات 2004 – 2010 لم تقدّم إلى المجلس النيابي وأنّ ما قُدّم منها عن السنوات 2006 – 2010 لا يرقى إلى مستوى قطع الحساب باعتراف وزير المالية الحالي،

- وأنّ حسابات المهمة العائدة للسنوات 2001 – 2011 لم تقدّم إلى ديوان المحاسبة،

- وأنّ الهبات قد فتحت لها حسابات خاصة في مصرف لبنان ولم تبرز أيّ مستندات تثبت إنفاقها على الأقل،

- وأنّ الإنفاق بواسطة سلفات الخزينة قد تمّ خلافاً لأحكام قانون المحاسبة العمومية،

- وأنّ هناك حوالات صرف وشيكات مفقودة في وزارة المالية...

فهل يُعتبر إدراج هذه المواضيع في كتاب الإبراء المستحيل كذباً وتجنّياً وافتراءً وأضاليل؟ لماذا؟

ولماذا ألّفت معالي الوزيرة ريّا الحسن فِرقاً تضمّ حوالي 180 موظفاً لإعادة تنظيم الحسابات المالية منذ مطلع العام 1993 وطلبت مهلة سنتين لإنجازها؟

ولماذا صرّحت أمام لجنة المال والموازنة بأنّ المهلة تمتدّ إلى ستّ سنوات إذا انخفض عدد أعضاء الفِرق إلى 48 موظفاً؟ ولماذا صرّحت بأنّها بصدد إجراء تحقيق بشأن الحوالات المفقودة والشيكات المفقودة؟ ألم تتّهم وزارة المالية معالي الوزيرة باثنتي عشر مخالفة؟ وما كان ردّ معاليها؟

ألم يلزم وزير الماليّة السيّد فؤاد السنيورة يانصيب اللوتو والتيكوتاك سنة 1993 خلافاً لأحكام القانون الذي ألغاهما اعتباراً من تاريخ انتهاء التلزيم السابق؟ وإلّا لماذا كان النص الذي صدر في العام 1998 ويقضي بإعادة العمل بهما اعتباراً من العام 1993؟

ألم يقم مستشار معالي وزير الماليّة السيّد فؤاد السنيورة بتسوية مخالفة في يانصيب التيكوتاك فوّتت على الخزينة حوالي خمسة مليارات ليرة لبنانية؟ وهل إنّ قرارات ديوان المحاسبة بهذا الشأن هي افتراء وأضاليل وتجنٍّ؟

وهنا لا بدّ من التذكير بأكثر من أربعة عشر قراراً قضائيّاً صادراً عن ديوان المحاسبة بشأن الحسابات المالية النهائية العائدة للسنوات 1993 – 2000، وبشأن مخالفات ماليّة في وزارة المالية، كان أبرزها ذلك الذي بيّن نتائج تصفير الحسابات في مطلع العام 1993، وذلك الذي أشار إلى احتساب نقص في الصندوق بسبب التصفير على أنّه "فروقات صندوق وأموال مختلسة".

ولا بدّ من التذكير أيضاً بمذكّرة موجّهة من المدّعي العام لدى ديوان المحاسبة بشأن برنامج المحاسبة المعدّ من قِبل المركز الإلكتروني والمعتمد من قبل الوزارة والذي "يسمح وخلافاً لأبسط قواعد الضبط والأصول المحاسبية المقرّرة في التصميم المحاسبي العام وغيره من النصوص القانونية، بإضافة أو إلغاء قيود سبق تدوينها، الأمر الذي يتيح إخفاء انحرافات أو أخطاء أو مخالفات يمكن أن تستدعي الملاحقة".

ولا بدّ من التذكير بتقرير أعدّه خبراء من البنك الدولي عن نظام المحاسبة المتعلق بتنفيذ الموازنة والمعتمد من قِبل وزارة المالية حيث ورد في هذا التقرير ما تعريبه:

أين الضوابط؟

"ويبدو أنّه حين تمّ تصميم وتطوير هذه الأنظمة ، لم يتمّ التفكير كثيراً بتوفير العناصر الرئيسية لأساسيات مثل "توزيع العمل" و"تحديد الوظائف'' و"الضوابط الوقائية" و"الرقابة اللاحقة عند حصول أيّ خطأ"، هذه العناصر التي تشكّل أساس الرقابة الماليّة الفعّالة.

إنّ هذا النظام المتفكّك في تصميمه وهندسته يحول دون تكوين رؤية متماسكة عن الأعمال المالية في كلّ مرحلة من مراحل التنفيذ، كما يحول دون استخدامها لأغراض الرقابة المالية والإدارية. فالمعلومات المالية الهامّة مبعثرة عبر مختلف الأنظمة المستخدمة. ومن المقلق جدّاً ملاحظة أنّ معظم الأنظمة التي تمّ التطرّق إليها في هذا الاستعراض تفتقر إلى الضوابط الأساسية.

وفي ما يلي ملخّص عن وضعية بعض الأنظمة:

نظام إعداد الموازنة: جميع تفاصيل الموازنة العائدة للسنوات السابقة ماتزال مفتوحة وقابلة لمزيد من التغيير والتعديل. نظام عقد النفقة: يلاحظ سهولة تغيير التفاصيل الرئيسية للعقود التي تمّت الموافقة عليها بالفعل وتصفيتها وحتى دفعها.

نظام سلفات الموازنة: يمكن إلغاء أوامر الدفع العائدة لسلفات الموازنة التي سبق دفعها في وقت لاحق وإعادة إصدار أوامر دفع جديدة. كما يمكن تسديد سلفات موازنة دون استلام أيّ مقابل (شيك أو نقداً).

نظام تنفيذ الموازنة: يوفّر القدرة على إعادة طباعة أوامر الدفع التي سبق دفعها فعليّاً، وتغيير التفاصيل الرئيسية لعقود معيّنة سبقت تصفيتها.
نظام المطلوبات والإيداعات: يمكن تدوين مطلوبات دون أيّ اعتمادات مقابلة (الصندوق / البنك). كما يمكن تنظيم أوامر الدفع لهذه الالتزامات، ومن ثمّ حذفها دون تدقيق.

نظام الصندوق: يمكن تغيير تفاصيل المقبوضات والمدفوعات في كلّ حين. كما يمكن حذف أوامر دفع سبق دفعها بالفعل. نظام إدارة الطوابع: إمكانية تغيير المعلومات في إيصالات الطوابع. نظام المحاسبة: إمكانية تعديل القيود في كلّ حين.

ومن البديهي أنّ الإمكانيّات المتاحة المذكورة أعلاه مخالفة للمبادئ الأساسية لأيّ نظام إدارة ماليّة سليمة، وبالتأكيد تثير الأسئلة حول الثوابت الأساسية لنظام إدارة المالية العامة في لبنان".

وبعد... أين الأضاليل والتجنّي والافتراءات؟ ومن يضلّل ويتجنّى ويفتري؟ ومن يحاسب من؟ حقيقة واحدة وردت في مطالعة معالي الوزيرة ريّا الحسن ونوافق عليها: "إنّ الحساب هو حقّاً في صناديق الاقتراع". وإليها سنحتكم...
theme::common.loader_icon