جورج طرابيشي برواية رفيقته «هنرييت عبودي»
جورج طرابيشي برواية رفيقته «هنرييت عبودي»
كه يلان محمد
Thursday, 21-Jan-2021 06:16

تزدادُ قيمة المغامرات العقلية والمبادرات الفكرية، وما يقومُ به أصحاب المشاريع التنويرية من الفتوحات المعرفية، عندما تسودُ الرغبةُ لدى الأغلبية بالركون إلى الدعة والإجترار للمفاهيم المُستهلكة، هذا ناهيك عن تفاقم الظواهر المرضية التي تعمّق الأزمة الحضارية، إلى أن يكونَ السبات العقلي عنواناً للمرحلة. آنذاك يبدأُ دور قادة الفكر بإنخراطهم في معترك الصراع مع التيارات الدوغمائية التي تتضخمُ في أجواء موبوءة بالأوهام.

يجبُ على المفكّر أن يتحمّلَ مسؤوليته ولا يخونَ وظيفته، وهي كما حدّدها نيتشه «القيام بتداوي مرض الحضارة». ومن المعلوم بأنَّ النقدَ هو ركنُ أساسي في الإنطلاقات الفكرية المؤثّرة على المستوى الحضاري، وتتطلبُ عملية صياغة الأدوات الكاشفة لأبعاد الإنتكاسات المتلاحقة، إدراك أهمية الإنفتاح على الروافد المعرفية المتعددة، وبذلك يتمُ الحفرُ في طبقات سحيقة لما يسمّيه محمد أركون «الجهل المؤسّس». بدوره، فهم المفكّر السوري جورج طرابيشي مُتطلّبات التعافي من عاهة الجمود الآيدولوجي والتشنّج العقلي، إذ من السذاجة إختزال الحداثة الفكرية في الشعارات الرنّانة والوصفات العقائدية. فقد كشفَ صاحب «هرطقات» ما خفي وراء المظاهر الطلعية المبهرجة من العقليات الحاضنة للقيم المنُاقضة لمفهوم الحداثة. وهو يقولُ بهذا الصدد إنّ «المخّ البشري مكوّنُ من طبقتين: طبقة سطحية فوقية يمكن أن تكون سياسية، إشتراكية، تقدّمية. وطبقة بنية تحتية داخل هذا المخ رجعية حتى الموت، بقطع النظر عن الخلفية الدينية أو المذهبية أو القومية». طبعاً، توصّل طرابيشي إلى بناء هذه المعادلة، بعد معاينته للتجارب المختلفة ومناقشته مع الرموز السياسية المتشرّبة بمبادئ التقدمية.

 

عطاء فكري

فاجأه الشرخ القائم بين ما يبدو على السطح، لدى هؤلاء الرموز، وما يعبّرون عنه بشأن بعض التحدّيات الحقوقية، ومنذ تلك اللحظة أصبحت الأولوية بالنسبة لطرابيشي النضال بالكلمة، وذلك من أجل إحداث التحوّل على مستوى البنية الداخلية للعقل. وما أنجزه جورج طرابيشي من مؤلّفات قيّمة ومواكبته للموجات الفلسفية ونظرته النقدية للمعطيات الفكرية، إضافة إلى إختياراته المميّزة في مجال الترجمة، يؤكّدُ أننا أمام قامة فكرية معطاءة. لذا، من المهمّ إستعادة سيرة مؤلّف «من النهضة إلى الردّة» ومحطّات من حياته النضالية، لأنَّ طرابيشي يقف في صفّ المفكّرين الكبار الذين يُعقدُ عليهم الرهان التنويري. وشهدت حياة طرابيشي، لاسيما على الصعيد الفكري تحوّلات لافتة، الأمر الذي يبيّنُ شخصيته المسكونة بالسؤال والباحثة عن الأفق الجديد. وما تسردهُ الكاتبة السورية هنرييت عبودي في كتابها «أيامي مع جورج طرابيشي اللحظة الآتية» يفتحُ مجالاً لمعرفة جوانب آخرى في شخصية صاحب «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية». ومن الواضح أنَّ إنشقاقات طرابيشي عن التيارات الماركسية والقومية تنمُّ عن إيمانه بأنّ النظرية رمادية، وشجرة الحياة خضراء متجدّدة خضرة، على حدّ تعبير غوته. لكن ذلك لا يعني غياب الثوابت في رؤية هذا المفكّر، إذ تشير هنرييت عبودي إلى أنَّ طرابيشي لم يتنكّر ليساريته، وبقي مقتنعاً بالمشروع العلماني، بإعتباره ركيزة لتأسيس المجتمع الديموقراطي. ورأى البعضُ في ما نشره طرابيشي بعنوان «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، خريطة طريق لحركة الإصلاح الديني. والجدير ذكره، أنَّ المفكر المغربي سعيد ناشيد قد اعترف بأنّه لا يكادُ ينقضي يوم دون العودة إلى العنوان الآنف الذكر، كما نصح بعض رجال الدين حسب رواية عبودي بمُطالعة الكتاب، وذلك دليلُ على تمكّن طرابيشي وإلمامه بالنصوص الأولى وحيثيات تشكيل المدارس الفقهية والإختلاف في آلية التأويل.

 

لذا، يستحقُ طرابيشي فعلاً لقب «لوثر الإسلام» و»فولتير العرب»، وما قدَّمه في مجال النقد الأدبي يُرسي عناصر منهجية جديدة في الممارسة النقدية. وهو يقولُ إنَّ «كل رواية تعلّمك كيفية دراستها ونقدها، وبإستطاعتك أساساً استحضار أفكار من ذهنك وتطبيقها»، وما يُفهمُ من هذا القول، أنَّ الخلفية المعرفية للناقد تحدّدُ له شكل التواصل مع المعطى الأدبي، كما أنّ مضمون النصّ يعلنُ عن المدخل المناسب لمقاربته. وتتذكرُ هنرييت عبودي سعادة شريك حياتها برسالة نجيب محفوظ، عقب إصدار «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، وفحوى ما كتبه مؤلّف ملحمة «حرافيش» لطرابيشي، ألا وهو: «يمكن أن تقول على لساني إنّ تفسيرك لكتاباتي وبالأخصّ لأولاد حارتنا، هو أقرب وأفضل تفسير لي». والكلام الذي تنقله الكاتبةُ على لسان عبد الرحمن منيف، يوحي بوجود وعي نقدي حاد لدى طرابيشي، لدرجة أنّه ما أن يسمعَ من الأخير بأنّه بصدد تأليف كتاب نقدي عن «حين تركنا الجسر» حتى يردَّ المنيف ممازحاً: «تريد أن تكشف أسراري يا أخي».

 

كان طرابيشي بإصراره على الكتابة قد تحدّى الظروف القاهرة، فهو ما برح يواصل إنجاز كتابه « شرق وغرب ..أنوثة ورجولة» فيما يدوّي صوت الإنفجارات والقذائف أثناء الحرب الأهلية في لبنان. وعلّقت هالة زكريا زوجة المفكّر اللبناني جورج قرم على هذا الموقف قائلةً: «كان جورج محقّاً عندما تحدّى القذائف في سبيل «شرق وغرب»، فأنا أعتبره أهمّ كتاب قرأته طوال حياتي».

 

وإلى جانب غزارة تأليف الكتب، واظب طرابيشي على نشر مقالاته حول الإصدارات الأدبية والفكرية الحديثة. فقد كان مفكّراً متشعّب الإهتمامات، وأراد أن يؤرّخ لسنوات عمره بما حقّقهُ من مآثر معرفية مهمّة. وكان محمد الباهي يقول، إنَّ «في سوريا عشرات الآلاف من المناضلين وفيها جورج طرابيشي واحد». طبعاً، قد يطوي التاريخ أسماء كثير من السياسيين والمناضلين، لكن أفكار طرابيشي ستكونُ مصدر الإستنارة على مرّ الزمن.

 

درب المعرفة

يتقاطعُ مصير جورج طرابيشي مع شريكة حياته هنرييت عبودي في درب المعرفة، فكان اللقاء الأول بين الإثنين قد بدأ بالحديث عن الكتب، إذ نصحته هنرييت برواية «المثقفون» لسيمون دي بوفوار، مُلمّحةً إلى فحوى العمل وشدّة تأثرها بفكرته، ولم يمض كثير من الوقت حتى زار جورج صديقته، ليعيد إليها الرواية مؤكّداً أنهُ سيبادرُ إلى ترجمتها، كما قدّم لها رواية «ألكسي زوربا». وهكذا، أصبحت الثقافة أساس العلاقة بينهما. وتكتشفُ هنرييت بأنّها قد وقعت في حبّ إبن حي «النيال»، حين يختار طرابيشي إقتناء أعمال الكاتب الروسي دوستويفسكي براتبه، بدلاً من شراء كنزة صوفية، وما أن أخبرها بهذه الصفقة حتى تبدّد أي شك حول حقيقة حبّها لهذا العقل النابغ. ومن ثمَّ تنشأ علاقة الحب بين الطرفين مغلَّفة بالإستعارات الثقافية، وكانت الكتب والسجالات بشأن الأفكار والمفاهيم الثقافية، زاد العلاقة بين طرابيشي وهنرييت، إذ يزرعان طرقات حلب ذهاباً وإياباً للحديث عن أبطال الروايات والأبحاث الفلسفية والنقدية.

 

وبعدما تتوجَت العلاقة بالإرتباط الأبدي، كان فرويد أو حنا مينا أو هربرت ماركوز دخلاء بين الزوجين، لكن محمد عابد الجابري سجّل رقماً قياسياً في مواكبة حياتهما الزوجية. ولكن، ما خلّف شعوراً بالأسف لدى طرابيشي، أنَّ الجابري لم يبادله الرغبةَ بالدخول إلى السجال المعرفي. والغريب ما تذكره الكاتبة عن القلق الذي أثاره الإسم لدى جورج طرابيشي، عندما عبّر عن رغبته للتخصّص في اللغة العربية. يستغربُ أحد الأشخاص متسائلاً: «أنت مسيحي فما دخلك باللغة العربية وآدابها؟». ومن جانبه ردَّ جورج موضحاً: «لولا عطاء اللغويين المسيحيين في القرن المنصرم لكنّا نتكلّم الآن اللغة العربية شبه تركية». ويتكرّرُ هذا الموقف في مناسبات أخرى، إذ يستنكر أحدُ المناقشين لأطروحة قدّمها المفكر سعيد ناشيد، من إنتصار لمفكّر إسمه جورج طرابيشي، ضدّ مفكّر إسمه محمد عابد الجابري، علماً أنَّ طرابيشي مشهود له منذ يفاعته بمواقفه الوطنية ورفضه للإستعمار، لكن يبدو أنَّ ثمة أشخاصاً لا يرون أبعد من أنفهم.

 

أخيراً، ما يجبُ قوله، إنَّ محتويات هذا الكتاب ترصد محطّات مفصلية في حياة مفكّر طوّعَ كل إمكانياته المعرفية للنهوض بالبنية العقلية، وكلّفه ذلك معاناة كثيرة من السجن والهجرة وضياع مكتبته، وهي رأسماله الوحيد.

theme::common.loader_icon