يتوقّع من الروايات التي تتناول موضوع الحرب والهجرة أن تفوحَ من أجوائها رائحة الموت، وتغرق في القتامة وتَنداحُ السوداوية على العبارات. لكنّ الروائي الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا لا يقف في روايته «لا تقولي إنك خائفة» عند ما تخلّفه الحرب من دمار فحسب، بل يرصدُ بصيص الإرادة في حلقة التقاتل والصراع العبثي بين القبائل الصومالية.
توكلُ وظيفة السرد إلى الصبية سامية ابنة عشيرة «أبجال». نشأت في مدينة موبوءة بالكراهية، لكن ذلك لم يمنعها من عقد الصداقة مع علي إبن عشيرة «دارود» المعادية، وهذه الصداقة أصبحت امتداداً للعلاقة الودّية بين أبويهما يوسف وياسين. ومن هنا نفهم دلالة ما تقوله سامية: «بإمكان الحرب أن تسلب المرء بعض الأشياء لكنها تخفق في مسّ الصداقة بالتحديد». إذاً، ينمو على كنف الصداقة حلم، ويتعهّدُ به الطرفان.
وفيما تؤكدُ سامية لوالدها بأنها سوف تصبح بطلةً ذات يوم، فإنَّ يوسف لا يشغلهُ سوى موعد انتهاء الحرب التي يسميها بالشقيقة الخبيثة. لا يتسرّبُ الشكّ إلى لهجة سامية عندما تعبّرُ عن شغفها بالفوز في السباق السنوي للجري بين أحياء مقديشو، وبذلك أصبحت المدينة بطرقها المتربة وأهوائها المشبّعة برائحة البارود مضماراً للتدريب، فكانت أوقات الحظر فرصة مثالية للتمرين برفقة علي. فخطر الميليشيات المتحاربة لم يحل دون الدأب على التحضير للانطلاقة نحو الحلم. يسوء الوضع أكثر مع ظهور جماعة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة، وما ان يزداد نفوذ هؤلاء حتى يتمُ إرغام الناس على ارتداء الزي الشرعي، ولم تعد الأزياء التقليدية مناسبة لعهد المتطرّفين، فقد طال قرار التحريم دور السينما لأنّ ما يعرضُ فيها يغذّي الأحلام. لكن لم تخسر سامية حلمها، بدأت بارتياد الاستاد الذي كان أشبه بثكنة عسكرية، وهي مثقلة بالبرقع.
الإحتفاء
تراكمت في البيئة التي تدور فيها أحداث الرواية عوامل الإحباط وضاق الخناق على حركة الشخصيات وتبدّلت السلوكيات إثر استفحال وباء التطرف، لكنّ الاحتفاء بالحياة ظلّ ملمحاً لافتاً للبسطاء. إذ تصدح الأغاني مرددة على مسمع أختها الصغيرة سامية مثلاً صومالياً: «افسح المجال للموسيقى كي تصل، فوجود الموسيقى كافٍ». والحال هذه تستمد سامية القوة من الإشارات التي تلتقطها، وتَزامن توقيت إقامة السباق الكبير بين أحياء المدينة مع اليوم الذي أتمّت فيه الصبية ربيعها العاشر، وانتزعت الفوز من التظاهرة الرياضية إذ أغدق الجمهور عليها مشاعر جميلة كما يحتفلُ أفراد الأسرة بفوز الإبنة الصغيرة. وزادت هدية الأب من سعادة سامية إذ لأول مرة ترى الأحذية الرياضية الجديدة، غير أنَّ الأهم في هذا السياق هو رؤيتها لصورة محمد فرح التي تسوقها الرياح إليها. هنا تتحول الراوية لسرد جانب من مثلها الأعلى الذي كان قد هرب من بلده الصومال وأصبح بطلاً عالمياً، تسمعُ سامية من مقهى تاجيري باسم محمد فرح، واستهوَتها أخبار انتصاراته.
إذاً، ضاعفت المصادفة من رغبة الفوز لدى سامية وشحنتها بمزيد من القوة لتحقيق الحلم. وبهذا، ينضَمُ محمد فرح إلى المؤثّرات الإيجابية ويكملُ مهمّة الوالد الذي ينصحُ ابنته قائلاً: «لا تقولي إنك خائفة أبداً يا صغيرتي سامية، وإلّا تعاظَم ما تخافينه حتى هزمك». كما أنّ الشكوى هي ما يجبُ أن تتجنّبها سامية أيضاً لأنها تزيدُ الإنسان تعاسةً في القيام بما لا يحبّ. واللافتُ في شخصية سامية هو التعافي بسرعة من الحزن، حيثُ تقتنعُ بأنَّ زواج أختها هودن وابتعادها عن العائلة أمر يستدعي الفرح بدلاً من الحزن الذي انتابها في البداية. ولم تستسلمْ لرياح اليأس حين رحل صديقها علي مع عائلته بعد أنْ باتت قبيلة «دارود» على مرمى نيران التحالف الثنائي بين قبيلة «هاوييا» و»جماعة الشباب». غابَ من كان يتابعُ تدريبها، وتحمّلت سامية الأصعب إذ تفقدُ والدها إلى الأبد حيث يستهدفه المتطرّفون، ويكتشفُ القارئ في المقاطع اللاحقة أنّ القاتل لم يكن سوى علي الذي انضمَّ مع أخيه ناصر إلى جماعة الشباب. هكذا، تتأرجح حياة سامية بين مَسرّات الفوز والمشاركة في بطولات جيبوتي والصين وصدمات الفراق، لكنّ إرادتها للحياة لم تلن، وكان نظرها على أولمبياد لندن.
المنقذ
غالباً ما يكون البطلُ، في الروايات المستوحاة فكرتها من الآيدولوجيا الخلاصية، هو القائد السياسي والرجل الحزبي، لكنّ قلم المؤلّف في رواية «لا تقولي إنك خائفة» شاغب هذا النسق المؤدلَج حيثُ اختار بطلاً بمواصفات مختلفة. فسامية ليست داعية حزبية أو زعيمة سياسية إنما هي تُمثّل الإرادة بمعناها النيتشوي، وتمكّنت من صناعة حلمها في تربة جَفّت فيها الأحلام وتَخشّب في أجوائها الحسّ الجمالي. فذكاء البطلة يكمنُ في اقتناص الفرّص التي تخدم حلمها. وما تتذكّره ليس مقتل الأب، بل كلماته: «أنت محاربة صغيرة تركض من أجل الحرية، وبفضل قواك ستخلّصين شعباً بأكمله». ما يفهمُ من مضمون هذه العبارة أنّ رهان الانتصار لا يجوز عَقده على فئة أو مجموعة معيّنة فقط، إنما كلّ إنسان بإمكانه أن يكون مشروعاً لدعم الحرية، كما تفيد تصرفات سامية بأنَّ الانكباب على الحلم هو تقنية للالتفاف على الأوضاع البائسة، كما انَّ استحضار النماذج الإيجابية جزء من استراتيجية النجاح، إذ لن تتخلى سامية عن صورة محمد فرح وهي في طريقها لتتويج مسيرتها بالمشاركة في أولمبياد لندن.
في الأجزاء الأخيرة من روايته يتناوَل كاتوتسيلا ظاهرة الهجرة إذ يعاني الهاربون في بؤر الصراع الأمرّين، وينكّلُ بهم السماسرة والمهربون. وما يعلق في ذهن المتلقّي، ليس مشاهد مأساوية تمر بها سامية ولا لحظاتها الأخيرة وهي تغرق محدقة بالحلم، بل اختراقات الأخيرة وإصرارها.
تجدر الإشارة إلى أنّ الكاتب يجمعَ بين البساطة والعمق في عمله السردي، وذلك يعني تَفوّقاً في تطويع الفكرة بذكاء والتعبير عنها بصيغة مطرّزة ببراعة، حيث استهلمَ من فلسفة نيتشه، وهي مجال اختصاصه. كما انساق إلى الحديث عن مفهوم الإرادة التي تمثّلت في شخصية «سامية» التي تروي مسيرتها بلغة انسيابية فائضة بشحنات إيجابية، وهذا ما يؤكد رغبة كاتوتسيلا في ترجمة غرائز النمو في نصه الروائي، حيثُ تَنبَسط ظلالُ عتبة العنوان على المفردات والعبارات المبثوثة في فضاء العمل.
وما يفيده مضمون النص أنّ حياة الإنسان ليست عبارة عن الظروف والأوضاع الخارجية وما يعيشهُ من تقلبات، بل انّ ما يَصبو إليه يُضفي معنى لأيامه، ومن هنا يمكن فَهم قول بطلة الرواية سامية: «أفوز كي أثبت لنفسي وللجميع أنّ الحرب بإمكانها أن توقِف بعض الأشياء وليس كلها».