السعادة والوعي الفلسفي
السعادة والوعي الفلسفي
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Monday, 26-Oct-2020 06:32
تزايَدَ الشعور بضرورة الهدوء النفسي وتنظيم الإنفعالات، مع الإنفجار الذي يشهده العالم اليوم في عملية الإنتاج والإستهلاك، وتأجيج القنوات الإعلامية للرغبة الشرائية التي توهِم بتوفير السعادة، وفي الواقع هي لا تحقق شيئاً سوى دعم ماكينة السوق وتضخّم السلع، كما أنّ التسابق لتقديم وصفات السعادة على غرار برامج المأكولات والحمية الغذائية التي هي جزء من المشهد التسويقي، هذا ناهيك عن استضافة خبراء التنمية البشرية في القنوات الإعلامية، والترويج للقصص الوهمية بشأن مسيرة شخصيات رأسمالية وتمكّنها من الصعود نحو قمة المجد المالي في مدة وجيزة، ما يعني أنَّ الهوس بالسعادة قد أصبح متغلغلاً في الثقافة العالمية، ورافَق ذلك نشوء التدجيل والشعوذة.

لا يخلو مفهوم السعادة من التناقضات، وهنا يجبُ السؤال عن دور الفلسفة في ما يمكن تسميته بإشكالية السعادة، وأي وظيفة تقومُ بها الفلسفة على هذا المستوى؟ هل ثمة فرصة لمناورة فلسفية في عصر عنوانه تغوّل ظاهرة «التَشيّؤ»؟ ومن المعلوم أنّ السعادة هي الشغل الشاغل بالنسبة للإنسان، وبدورها تشتغلُ الفلسفة على كل ما يمتُ بصلة إلى الكائن البشري، لذلك لم يكن مفهوم السعادة بعيداً عن تناول المباحث الفلسفية.

 

الانتحار والسعادة

 

صحيح انه قد تتفاوَت الآراء حول ما يكون قاعدة لحياة هادئة أو معيشة أقلّ توتراً وتعاسة. وما يثير الاستغراب أنّ الفيلسوف الفرنسي «باسكال» يضعُ الانتحار أيضاً ضمن المساعي اللاواعية لتحقيق السعادة. تتضحُ صحّة هذا الكلام عندما نفهم الانتحار بوَصفِه محاولة للتعافي من سقم الروح، ذلك المرض الذي عاناه كثير من المبدعين. يكتبُ نيتشه لمالفيدا لافتاً إلى أنّ ألمه مرتبط بعمق بأزماته الروحية، ويعبّر عن شكّه حول ما يمكن أن يفعله الطبُ لاسترداد عافيته.

 

وهذا موضوع يتطلّبُ دراسة متعمّقة لفهم جذور العلاقة القائمة بين السوداوية والإبداع. ومن المعلوم أنّ الانهماك على المعرفة لم يمنع بعضَ الفلاسفة من الإقدام على الإنتحار، وهنا نشير إلى أمبادقليس الذي أراد بانتحاره إثبات أنه جدير بأن يكون إلهاً. وكان الانتحار مباحاً لدى الرواقيين، ويقال إنَّ كلّاً من زينون وكليانثيس قد وضعا حدّاً لحياتهما. الأهم في هذا الإطار هو معرفة أسباب الشقاء، وما تقدّمه الفلسفة للتخفيف من فعالية المشاعر الحزينة.

 

مكر السعادة

 

لعلَّ سقراط هو من كان أكثر إدراكاً بعدم ديمومة السعادة ومكرها، لذا قال انَّ السعادة هي ما لا يعقبه الإحساس بالندم. يفيدُ منطق كلام فيلسوف الفضيلة بأنّ ما يُوَلّد الشعور بالسعادة لدى الإنسان قد يدفع به نحو مهوى التعاسة لاحقاً. إذاً، ربما يكون الحلُ هو عدم ارتفاع سقف التوقعات حول ما يقع خارج ذاتك، لأنَّ حجم الخيبة يكبرُ أكثر كلما كان الأملُ معقوداً على الخارج. يقول نيتشه بهذا الصدد: «لا شيءَ يساعدني، لا بدَّ أن أساعد نفسي وإلّا فأنا مُنتهٍ».

 

كما أنّ حدّة القلق والإضطراب لن تخفَّ من دون التحكّم بالإنفعالات، ومن الضروري أيضاً التفريق بين ما في قدرتك وتحت تصرّفك وما هو فوق إمكانياتك، وأنّ مهنتك أن تكون ذا شأن في تلك الأمور التي هي في مقدورك، هذا ما ينصحنا به إبكتيتوس. هنا يجب الإشارة إلى أنّ هذا الرأي لا يكرّسُ مبدأ الاستسلام بقدر ما يؤكّدُ على أهمية ما يعيشهُ الإنسان في هذه اللحظة. «تمتّعْ بيومك» وفق حكمة هيوراثيوس، ما يعني أنّ المراهنة على المجهول أو الأمل هو شَرّ البليّة على حد تعبير مؤلف «هذا هو الإنسان». يتقاطعُ الرواقيون مع أتباع الفلسفة الأبيقورية في هذه النقطة، أي رفض تعويض الحاضر بالمستقبل المجهول.

 

بالطبع، ما ان يدور الكلام عن العلاج الفلسفي للأزمات الإنسانية على مختلف الأصعدة حتى تنصرف الأنظار إلى الرواقيين والأبيقوريين، على اعتبار أنّ هؤلاء قد بادروا الى تأسيس مقوّمات الفلسفة العملية. يعتقد جون غرايش أنّ ما يحرّك الفيلسوف، وفقاً للمبادئ الأبيقورية، هو همّ إسعاف المرضى. كما أنّ آراء الفلاسفة تستمدّ قيمتها، برأي أبيقور، من وظيفتها العلاجية، إذ يرى أن لا جدوى من فنّ الطبّ إذا لم يخفّف من آلام الجسد، كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة على مستوى وجع النفس. إذاً، يستحيلُ العيش بالسعادة من دون التمسّك بالنزاهة والاعتدال والحكمة، لكن من أين نتعلم هذه المبادئ الثلاثة؟

 

متعة العيش

 

ليست الفلسفة متعة للتفكير فحسب بل هي متعة للعيش أيضاً، فلا بدّ أن تكون عاملاً لتحسين نمط المعيشة. وذلك يتمّ بتشخيص أسباب القلق والتوتر وتشذيب الأفكار من الوهم الذي يعتّمُ الرؤية. أكثر ممّا سبق، فإنَّ جانباً آخر من أهمية المسعى الفلسفي يكمنُ في تفحّص الأفكار والعزوف عن إطلاق الأحكام على الظواهر قبل تفهّمها، وبهذا يمكنُ تعقّل أسلوب الحياة. ونحنُ بصدد الحديث عن دور الفلسفة في استقامة التفكير والإعتدال في الرغبات والتخلّص من الأوهام، لا بدّ من التوقف عند ما يراه أبيقور سبباً لتضاعف معاناة الإنسان، إذ تأتي الظنون الخاطئة في المقدّمة، فيجبُ الإقرار بأنّ الإنسان ليس كائناً خالداً، لذا من العبث إعراض عمّا هو في متناولك اليوم مترقّباً لِما يحملهُ المجهول، ويَلي ذلك الخوف من الموت.

 

ينصحنا أبيقور بالاعتياد على التفكير بأنَّ الموت لا شيءَ بالمقارنة معنا، وبما أنّ الإحساس هو ما يحدّد الخير والشرّ، فبالتالي لا تصحُّ الخِشية من الموت طالما هو يعادلُ فقدان الإحساس. ومن ثمّ يضيف أبيقور الرغبة اللانهائية إلى لائحة ما تنجمُ عنه حياة مرهقة. هنا، من الضروري أن يتمَ التمييز بين الرغبات الباطلة والرغبات الطبيعية، يضعُ صاحب «الحديقة» سلّماً تراتبياً للأخيرة، ويتصدّر ما يخدمُ الحياةَ والبقاءَ، وتأتي تالياً الرغبات التي تتوقّف عليها راحة الجسد، وهكذا دواليك. كما أنّ الصبر على الآلام هو ما يطالبُ به أبيقور، فبرأيه لا يوجد ألم دائم وفي ذلك مصدر للعزاء. وما يمكنُ التوصّل إليه، بناءَّ على الآراء المذكورة أعلاه، أنّ راحة النفس هو ما تهدف إليه الفلسفة الأبيقورية، والإنسان الذي يحظى براحة النفس لا يزعج نفسه ولا غيره.

 

يُشار إلى أنّ للفلسفة الأبيقورية تمظهرات في رؤية كثير من الفلاسفة، لعلّ سبينوزا وماركس ونيتشه من أبرزهم، وما أنجَزه فرويد بعد استِغواره في قارّة اللاشعور تجدُ مؤشراته في مضمون مقولة أبيقور: «اننا لسنا بارزين جلياً لذواتنا لكن غالباً ما تحرّكنا اعتقادات نجهلها». ما يجدرُ الإشارة إليه في هذا المقام هو أنّ أبيقور ولد عام 241 ق.م. لأبوين أثينين، ورحل إلى آسيا الصغرى حيث جَذبته فلسفة ديمقريطس، وبعدما عاد إلى موطنه قام بتأسيس «الحديقة» مع جماعة من أتباعه، وبذلك ذاع صيته بحديقته كما اشتهر أفلاطون بأكاديميته وزينون برواقه الفلسفي، أمّا سقراط فكانت الشوارعُ فضاءً مفتوحاً لنشاطه الفلسفي.

theme::common.loader_icon