بري على حق
بري على حق
شارل جبور
جريدة الجمهورية
Monday, 05-Oct-2020 07:12
في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس مجلس النواب نبيه بري للإعلان عن الإطار العملي للتفاوض حول ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، قال رداً على سؤال: «لبنان عمره 6000 سنة ولا يزال في مرحلة التأسيس».

 

قال بري كلمة حق، واضعاً إصبعه على الجرح، لأنّ كل المشكلة التي نعيشها في لبنان منذ العام 1920 تكمن في انّ هذا البلد لا يزال في طور التأسيس، فيما التأسيس يحصل لمرة واحدة مبدئياً، وكل ما يستتبع هذه المحطة يندرج في سياق التحصين والتطوير والتحديث لا التأسيس.

 

بري على حق في انّ «لبنان لا يزال في مرحلة التأسيس»، والدليل النزاعات المفتوحة منذ قيام الجمهورية اللبنانية إلى اليوم، ولو اختلفت الأسباب بين محطة وأخرى، وجماعة وأخرى، إلّا انّ النتيجة واحدة، وهي انّ الاستقرار كان الاستثناء واللاستقرار هو القاعدة.

 

فهل يُعقل ان تنتكس الجمهورية بعد 15 عاماً على الاستقلال في حوادث 1958؟ وهل يُعقل ان تسقط الجمهورية بعد 32 عاماً على الاستقلال في حرب العام 1975؟ وهل يُعقل ان يتمّ الانقلاب على تسوية تاريخية عُرفت بـ»اتفاق الطائف»، وأنهت الحرب الأهلية ولم تجد طريقها إلى التنفيذ؟ هل يُعقل ان تكون الخلافات بين اللبنانيين في مئوية لبنان الكبير، من طبيعة وجودية وتتعلق بهوية لبنان ودوره ومفهوم الدولة والسيادة والاستقلال؟ وهل يُعقل ان يبقى لبنان في دوامة النزاعات المفتوحة، الرامية إلى تذويبه او استخدامه ساحة؟ وهل يُعقل انّ هناك من يحاول إقناع اللبنانيين بأنّ سلاحه هو الضمان لا سلاح الدولة، ويتمسّك بهذا السلاح حتى قيام الساعة؟ وهل يُعقل انّ هناك من يبدّي دوماً خيارات خارجية على الخيارات المحلية؟ وهل يُعقل قيام وطن ودولة في ظلّ غياب ولاء وانتماء فئة من اللبنانيين إلى لبنان؟

 

وفي موازاة الانقسامات العمودية في النظرة إلى لبنان ودوره منذ الاستقلال إلى اليوم، هناك من يحاول تبسيط المشكلة وتسطيحها، في انّ جميع اللبنانيين موحّدون، باستثناء فئة صغيرة تخطف طائفتها، ومجرّد تحرير المخطوفين تصطلح الأمور، متجاهلين عمق الأزمة، وانّ ما تقوم به هذه الفئة هو حلقة من حلقات الفئات التي سبقتها، وما ان تنكفئ هذه الفئة حتى تتقدّم فئة أخرى، وهكذا دواليك، في انقسام لا مؤشرات إلى نهايته لأسباب تعددية وجغرافية ونزاعية على مستوى المنطقة.

 

فالمشكلة مع «حزب الله» ليست في سلاحه فقط، بل في الخلاف العميق معه حول طبيعة النظام اللبناني ودور لبنان في محيطه. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن بناء دولة في ظلّ نظرتين مختلفتين لهذه الدولة؟ ومن قال إنّ الأزمة اللبنانية تنتهي متى سلّم الحزب سلاحه للدولة؟ ألم يكن هناك من يعتبر انّ خروج الجيش السوري من لبنان كافٍ لاستعادة لبنان دوره وسيادته واستقلاله؟ وهل يكفي التغنّي باسطوانة العيش المشترك ولبنان الرسالة، فيما هناك من يسعى لغلبة سياسية تحوِّل العيش المشترك عنواناً استخدامياً وتوظيفياً من أجل الهيمنة بإسم هذا العيش وخلافاً لجوهر ورسالة العيش معاً.

 

وإذا كان التأسيس قد تعذّر لمرة واحدة ونهائية، وما زالت الجمهورية اللبنانية تدور في الحلقة المفرغة نفسها بمعزل عن اختلاف اللاعبين، ألم يحن الوقت إذاً لتسوية تأسيسية لمرة واحدة وأخيرة، لأنّه من غير المسموح ان يبقى لبنان وشعبه حقل تجارب وصندوق بريد وفي حالة حرب متواصلة، بل من حق هذا الشعب ان يؤسس لمستقبله في هذا البلد لا خارجه؟

 

فالأزمة اللبنانية هي أزمة معقّدة، وحلّها لا يكون بالتبسيط والكلام الشعبوي او العاطفي والشعارات العامة، لأنّ ما يعيشه لبنان اليوم ليس مستجداً، بل هو فصل من فصول الانقسامات التي عرفها هذا البلد على مرّ التاريخ، ولا يفترض بموجات او هبّات او ظواهر ان تبدِّل في مرتكزات رؤى تستند إلى تجربة طويلة وخلاف عميق، وهذا لا يعني عدم الرهان على تطور الإنسان الذي يشكّل وحده المحرِّك للتاريخ وقوة الدفع نحو المستقبل، كما لا يعني عدم الرهان على الوعي السياسي واليقظة الشعبية، بل يجب تشجيع هذه الموجات والهبات والظواهر من أجل نقلها من كونها عابرة وغير مؤثرة وموسمية، إلى راسخة وثابتة ومؤثرة في مجرى الأحداث، وعندما تصبح كذلك يمكن الرهان على لبنان الجديد.

 

ومن السهل الدعوة إلى التزام «اتفاق الطائف» الذي لم يُطبّق يوماً، وهناك من يسعى إلى تعديله ليتناسب مع حجمه الذي اختلف عمّا كان عليه عند إقرار هذا الاتفاق، ومن السهل أيضاً الدعوة إلى الاتفاق على مساحة مشتركة بعنوان واحد متفرِّع إلى ثلاثة: شرعية محلية وعربية ودولية، لأنّ من دون هذه المساحة المشتركة، التي تجمع اللبنانيين على ثوابت ومبادئ ونظرة واحدة، لا قيامة لهذا الوطن، ولكن هذا العنوان المتفرِّع إلى ثلاثة لم يكن يوماً محط توافق بين اللبنانيين، بل هناك من كان دوماً ضدّ الدولة بمفهومها التشاركي وسعياً إلى دولة الغابة.

 

ومن غير الصحيح انّ المشكلة تكمن في النظام الطائفي، وانّ مجرّد تحويل هذا النظام مدنياً وعلمانياً تنتهي هذه المشكلة، لأنّ الأنظمة هي انعكاس لصورة المجتمع وتركيبته وطبيعته، كما انّ أصحاب نظرية تحميل المسؤولية إلى النظام الطائفي ينقسمون تاريخياً إلى فئتين: فئة الناس التي تعيش على سطح الأحداث وتصرّ على مقاربة تظهرها بموقع الحديث والمتطور مقابل الرجعي والمتخلِّف، وفئة الناس التي تريد إلغاء النظام التشاركي ليس لبناء دولة واحدة وأمة لبنانية ووحدة حال بين المواطنين وعدالة ومساواة تامة، إنما من أجل تغليب فئة على كل الفئات بإسم الدولة المدنية او ما شابه.

 

فالدولة أكانت طائفية أم مدنية أم علمانية، لا يمكن ان تقوم وتنهض إذا لم يكن ولاء وانتماء كل الطوائف وجميع المواطنين لهذه الدولة، والدولة أكانت طائفية أم مدنية أم علمانية، لا يمكن ان تقوم وتنهض إذا لم تكن صاحبة القرار والمرجعية في الدفاع والأمن والمال والقضاء، فهل المشكلة اليوم هي مشكلة طائفية الدولة ام وجود فئة مسلحة تدّعي لنفسها مهمة فوق الفئات الأخرى؟ وهل الأزمة الكيانية اليوم سببها طائفي، أم مردّها إلى إصرار جماعة معينة على مصادرة قرار الدولة لاعتبارات عقائدية وإقليمية؟ وهل الحرب اللبنانية اندلعت بسبب خلاف صلاحيات، أم بسبب خلاف خيارات كبرى بين «لبنان الحياد»، وبين «لبنان الساحة» لمشاريع القوى الإقليمية؟

 

لقد وضع بري إصبعه على الجرح بإقراره انّ لبنان الذي «عمره 6000 سنة لا يزال في مرحلة التأسيس»، وهذا الوضع التأسيسي المتواصل جرّ الكوارث والويلات على لبنان وشعبه، الذي لم يعرف الراحة بسبب تنقله من حرب إلى أخرى، ومن أزمة إلى أخرى، وهذا الوضع مرشح للاستمرار في حال لم يُصَر إلى الاتفاق على تأسيس لبنان لمرة واحدة وأخيرة، والانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة بناء وطن لا مرجعية فيه سوى للدولة، ولا تناقض فيه بين المواطن الفرد والمواطن المنتمي إلى جماعة، وأن لا يكون عرضة للسقوط عند اي اهتزاز خارجي او تأثُّر فئة داخلية برياح خارجية، بل يجب الذهاب إلى النظام الذي يضع حداً نهائياً لمنطق العد، ويقطع الطريق على رهانات التحوّلات والتبدلات لقلب الطاولة والأوضاع، وتشعر فيه الطوائف انّها انتقلت من مرحلة النزاعات الوجودية التي تجعلها مشدودة خوفاً على مصيرها وتمسّكاً بوجودها، إلى مرحلة بناء الدولة التي تجسِّد تطلعات جميع اللبنانيين وتضمن حاضرهم ومستقبلهم الآمن والمستقر.

 

بري على حقّ، فأن يكون لبنان في طور التأسيس منذ 6000 سنة، فهذا فشل ما بعده فشل، وإدانة ما بعدها إدانة للشعب اللبناني ووطن الرسالة، وقد حان الوقت للانتقال من مرحلة ومحاولات التأسيس إلى تأسيس لبنان على القواعد التي تضمن استمرار دوره وتنوعه وتركيبته لـ6000 سنة مقبلة.

 

theme::common.loader_icon