نزعة اللامعقول في رواية «وتترنّح الأرض»
نزعة اللامعقول في رواية «وتترنّح الأرض»
كه يلان محمد
Saturday, 26-Sep-2020 06:26

تلعب العوامل السلبية دورا مهما في عملية التقدّم، بحسب رأي هيغل، ويُسمّي تلك المفارقة بمكر التاريخ. هذا يعني أنّ شحنة التفاؤل عالية بحركة الواقع بحسب منطق العقل الهيغلي، لكن ماذا يكون عليه الموقف عندما يتفاقم العبث ويمتدُ مستنقع البؤس ويبوء منطق العقل بالفشل في فهم الظواهر المقيتة؟

عندها، يستشتري الفساد والدمار وينهار الإنسان أمام منطق المادة ويتسرّب الحب من القلوب الخائبة، إلى أن تتخشّب العواطف بحيث يغدو النهم والالتذاذ الغريزي الشغل الشاغل للجميع، حينذاك يخسر الكائن البشري كلّ أبعاده الجمالية، ويغدو أداة طيّعة وفق حسابات مادية. هنا يزاحِم الأدب، وبالتحديد آلية السرد الروائي، الفلسفة في إضاءة المضمر بالمشهد، ويكون التوغّل في نفق النزعات التدميرية اللامعقولة سِمة أساسية للاشتغالات الروائية. وهذا ما يستمد منه فن الرواية الخصوصية، فمهمّة الروائي تتمثّلُ في رَصده لهباء التاريخ وما همّشَ ولم يتّسع له المتن، وقد تكون الرواية تعويضاً للتاريخ وما يسرد ضمن إطاره المطوع لمرويّات رسمية.

 

شخصيات مثقلة بالخيبات

تَدفعُ الكاتبة والروائية السورية «دعد ديب» بشخصيات مثقلة بالخيبات إلى مسرح روايتها الأولى «وتترنّح الأرض»، حيث ينفتحُ العنوان على مداليل متعدّدة ويأخذ بالمتلقّي إلى لعبة تأويلية متشابكة مع الميثولوجيا السومرية - الثور الذي يحمل الارض على قرنيه - الأمر الذي يفهمُ بالوضوح إذا تمّت قراءة العتبة الأولى متجاورة مع صورة الغلاف، غير أنّ ما يشدُّ الانتباه لأول وهلة هو تركيبة الجملة الفعلية المعطوفة على المحذوف، ما يعني أنّ مناورة النصّ تبدأ من العنوان.

 

الإضمار

يتفاعلُ المتلقّي مع النصّ الروائي كلّما تمّ توظيف تقنية الإضمار في تشكيلته أو تراوح النصّ بين جدلية الإضمار والتجلّي. ولا ينجلي الغموض عن مفردة عنوان رواية «وتترنّح الأرض» قبل متابعة محتوياتها، إذ تجد شخصيات هذا العمل على قيد المتاهة والعبث، ومع مضي السرد قُدماً يظهرُ العالم أكثر هشاشة وتهلهلاً، ويأتي المسلك الأول من الرواية مازجاً بين السرد والوصف إذ يلمّحُ المتكلم بالمضمر الأول إلى الأجواء العاصفة، وذلك يعادله على الصعيد النفسي القلق والتوتر من لحظة اللقاء الذي يجمعُ بين شخصيتين قد غَزت الغربة فضاءيهما، ولا يلوح في أفق الاثنتين سوى أطياف من زمن عامرٍ بالحب، ومن ثمّ تقفُ عدسة السرد عند ملامح المقابل وما تشير إليه الألوان المرسومة من التحوّلات في الزمن، كما أنَّ الصوت يسحبُ المستمعَ إلى فيافي المجهول الذي يحتضنُ اللذّة والقلق في آن واحد. إذا كان مفتتح الرواية يتّخذُ بنية مونولوجيه، فإنّ الأقسام المتتالية تتّجه إلى النمط الحواري، وينضحُ الكلامُ بالطابع الذهني المطعّم بالحنين والعاطفة، وتنتقلُ مروحة الحديث بين عدة مواضيع منها الزمن الموشوم بالعار حيثُ لا يفيد فيه التضامن مع الضحية إنما يجبُ الانتقال إلى صَف الضحايا، إذا أريد للمرء الاحتفاظ بالحِس الإنساني. وفيما تخالف «بارعة» هذا الرأي مُقتنعةً بوجود خيط واهن من الأمل، يذهبُ «ممدوح» بعيداً في تشاؤمه بالإنسان واصفاً إيّاه بالوحش الذي يتذرّع بالحرية لسفك مزيد من الدماء، ويسترسلُ الحوار القائم على بنية التقابل بين طرفين كل واحدٍ منهما يُمثّلُ فكرة. وبينما تُبدي «بارعة» إعجابها بالغرب وحظوته في الاستقرار، يشيرُ «ممدوح» إلى ما يؤكد استيحاش الغرب ومبادرته للقضاء على الألوان الصفر في اليابان والسود في أفريقيا والحنطي في الشرق والحمر في أميركا، وهنا يأتي الكلام مباشراً بلغة تقريرية، مع أنّ الكاتبة استعارت صوت الرجل لتمرير تلك الأفكار، وعلى هذا النحو يكون النقاش بين الحبيبين بشأنِ العمل والاتجار بالبشر واليأس، وتتخللُ أبيات شعرية في أعطاف الحوار ما يعني وجود مستويات تعبيرية متنوّعة في مساحة النص، كما يتحوّل الحوار في مفصل آخر من مناقشة فكرية إلى مطارحة غرامية، ويُستشفُّ ممّا يقوله «ممدوح» انّ الأخير يريد التماهي مع حبيبته كأنّه بذلك يستعيد شِقّه المفقود مشيراً لوحدة الجندر. هكذا يتحرّك النص بين المونولوج والحوار، ويسكنُ المضمون حسّ نقدي مع نبرة عالية من الرومانسية، أو ما تسمّيه ناتالي خوري الغريب بالروحانية المادية.

 

شخصيات مُحطّمة

لا يَنفرد «ممدوح» مع حبيبته بالمشهد، بل تنضمُّ شخصيات جديدة إلى فضاء النصّ، وما يجمع بين هؤلاء هو خيبة الأمل، فكان البحث عن الذهب الأسود بمثابة قبض ريح بالنسبة لفؤاد وممدوح الذي يتضاعفُ بؤسه بعد مقتل أخيه، ويحلّ عليه الشعور بالوحشة بعد غياب الأهل. كذلك، يتورّط محمود المتديّن مع زبيدة التي بيدها مفتاح الكنوز والشهوة، ولا يشاركها غير حاتم في اللعب على الحبال. تعتمد دعد ديب على مواقف الشخصيات لتوليد طاقة تهكّمية، إذ يتذكّر محمود صدقاته بما كسبه من أموال أثناء عمله مع زبيدة، وهو مركون في زنزانته، وتقتنعُ بارعة بأن تعيشَ على كنف رجل بلا نبض الحب، لكن ما يبعثُ على التهكم والسخرية أكثر هو تحوّل زبيدة الغارقة في الفساد إلى رئيس حزب مدافع عن البيئة في فرنسا، وما ان يكتشف ممدوح هذا الموقف حتى يبدأ رحلة معاكسة عائداً إلى وطنه. يذكر أنّ الرواية تُقفل على بنية مدوّرة، فالجملة الأخيرة هي ما تمرُّ على المتلقي في الصفحات الأولى، ضمن حلقة ملتفّة بالسرد، واللافتُ في برنامج الكاتبة هو تمكّنها من صياغة الرواية بلغة معبّرة عن السخط والعواطف، كما حاولت أن تتّخذ بينها وبين صنيعها من الشخصيات والأحداث مساحة، بحيثُ توهِم باستقلالية العالم المنتظم في بيت اللغة.

 

فالكاتبة لا تتكفّل مباشرة بتقديم الشخصيات، إنما تتيح الفرصة للإبانة عن مستوى الشخصيات من خلال استرجاع لحظات فارقة، واستبطان ذاتي. إضافة إلى تَناص الرواية مع الموروث الأسطوري، فإنها تنفتحُ أيضاً على الميثولوجيا الشعبية إذ تتماهى بارعة مع شخصية زرقاء اليمامة، ما يعني أنّ المرأة لا تزال تعاني القيود المتعارف عليها اجتماعياً. فيما تبدو صورة الأنثى في الخطاب الصوفي مغايرة، فهي تكتنز الأسرار وترمز الى الديمومة، بحيث أنّ المكان الذي لا يؤنَّث لا يمكن التعويل عليه، وهذا ما تشير إليه ترويسة القسم المعَنون باسم «بارعة».

theme::common.loader_icon